ورد في كتب الأدب الشعبي الكثير عن "جحا" ونوادره.. وما أحوجنا في هذا الزمان إلى استرجاع الحكايات القديمة والنوادر المسلية، وعلينا أن نستوعب بالقدر الذي تسمح به عقولنا للتأمل فيها وأخذ الدروس، إذا كانت هناك الوقت الذي يتيح لنا التأمل ولو قليلا.. وعليه نحكي حكاية "حجا" مع ولده وحماره.. تقول الحكاية:
إن حجا ذهب إلى السوق مع ابنه لشراء حمار.. وبالفعل اشترى الحمار.. ولكن أثناء العودة من السوق إلى البيت جرى ما جرى، فقد ركب الحمار وسار الابن على قدميه إلى جوار الحمار، وهنا تعرض جحا للانتقاد الشديد من الناس، كيف يركب ويترك ولده ماشياً على قدميه؟ وهنا نزل حجا من فوق ظهر الحمار وأخذ الابن مكانه، وما هي إلا خطوات حتى حدث اعتراض آخر، كيف يركب الابن وهو الشاب القادر على المشي بينما الأب المتهالك هو الذي ينافس الحمار في السير؟ وعليه ركب الأب والابن معا، وما هي إلا خطوات حتى حدث اعتراض جديد: ما هذه القسوة الشديدة؟! رجلان ثقيلان على ظهر هذا الحمار المسكين، فنزل حجا وولده وسار إلى جوار الحمار، ولكن هذا الوضع لم يعجب الناس أيضاً، قالوا رجل مخبول وابنه مثله، ما فائدة الحمار إذن وهو يسير بلا حمل؟.. وتمضي الحكاية في طريقها العادي على هذا النهج، وتقول النادرة إلى أن حجا وولده انتهيا إلى أن حملا الحمار، أي ركبهما الحمار بدلاً من أن يركباه..وهنا أتهما بالجنون!!.
هذا ما يحدث في زماننا اليوم.. لا أحد يرضى عن أي شيء.. فالناس لا يعجبهم العجب وأصبح الجميع فلاسفة وأصحاب رأي وخبر.. ولا مانع أن يتحدث المهندس في الطب والعكس.. وتكاثر علينا الخبراء في كل شيء.. سياسة! كلنا أصحاب سياسية ونفهم سياسية؟ وتسمع في القضية الواحدة عشرة آراء على الأقل، ولا يمكن أن يتفق أحدها مع الآخر، وكل صاحب رأي يتمسك به، ويحرص كل الحرص أن يكون مختلفاً عن الآخر، حتى لو كان الآخر على صواب، أصبحت القاعدة هي الاختلاف لا الاتفاق، أن تعارض..!! أن ترفض، أن تستنكر، أن تظهر استياءك، وتعلن تشاؤمك بصفة دائمة.. هناك دائماً "لا" جاهزة يتم قذفها كالحجر في الوجه، وهناك رغبة في الانتقاص من قيمة كل شيء! أو ما يحدث في السياسة يحدث في عالم الملك والتجارة والاقتصاد، لا مانع من أن يعترض بائع البطاط على أداء وزير الاقتصاد لأن الرجل يحس بكساد حقيقي، وهو لايعرف وزير الاقتصاد ولا يعرف اسمه ولا طبيعة عمله، والحال واقف والأمور "مش ماشية"، على الفور يظهر الاعتراض الفطري الناتج عن سوء الأحوال، ولكن هناك الاعتارض والمعارضة والمناقشة والمجادلة والدخول في النظم الدولية والمناهج العلمية عندما يتبارى "الدكاترة" و"الأساتذة" وجهابذة المال وتختلط الرؤية، وتغيب الحقيقة، والكل يتكلم، والكارثة الكبرى أن كل من يتكلم يهدر كل ما قيل من قبل الغير..
وهكذا الحال في كل المجالات، حتى أصبح شروق الشمس في بلادنا كل صباح من أمور الاختلاف، وهناك من يفضل اختفاء الشمس تحت كتل السحاب السوداء حتى ينعم بالجو الرمادي!.
والسؤال: هل هي عقدة نفسيه أصابت قطاعات عريضة من الناس؟ وللأسف الشديد بينهم عدد كبير من الصحافيين والكتاب الذين يجب أن تكون كتاباتهم رزينة مبنية على الحجة والهدف السامي النبيل وليس لمجرد الاعتراض أو ليقولوا: نحن هنا!! وإذا كانت عقدة نفسية فما سببها؟ أم أن المسألة غير ذلك تماما وأننا لا نعرف شيئاً عن أي شيء!!، وبالتالي اللي عنده حاجة يريد يقولها يتفضل؟ وسائل الإعلام ما أكثرها.. للقنوات الفضائية تلتقط الضيوف المتنافرين، وتطلق كلاً منهما على الآخر، وكأنهما في حلبة لصراع الديوك، شجار يصل إلى التشابك بالأيدي، تبادل الألفاظ "النابية" و"غير المؤدبة" والناس تتفرج على دراما.
دراما جديدة وعلى الهواء مباشرة، لا يقدر على صنعها أكفاء الكتاب ولا أقدر المخرجين، أصبحت اللعبة هي التناقض، هي المفارقة، هي استغلال الهوس، بحب الذات وشهوة الشهرة، والمعروف أن الأمور العادية لا تلفت النظر لأنها عادية وطبيعية وسوية وعقلانية، وهكذا الدنيا تسير سيرها الطبيعي، أما في هذا الزمان، زمان القتال لمجرد القتال، فليس هناك من يقاتل من أجل قضية حتى لو كانت باطلة، ولكنه القتال من أجل الذات والظهور الكاذب والفج على حساب الصدق والموضوعية، وأهم من ذلك على حساب الحقيقة، ولكن من يهتم بالحقيقة في هذه الأيام.. وأنا أسأل عباقرة هذا الزمان عن رأيهم في مسألة جحا وابنه وحماره: هل يركب الحمار أم يركبه الحمار؟!.
محمد الحيمدي
يا.. أهل الطريق..؟ 1722