الحقيقة الوحيدة التي نستطيع أن نطمئن إليها في عالمنا العربي هي أن "مارد" التغيير قد انطلق من "قمقمه" ولا أحداً يستطيع أن يعيده أو أن يمنعه من الانتقال بحرية من مكان إلى آخر.
صحيح أن بعض الحكومات لم تستطع حتى الآن أن تلتقط هزات ما حصل من زلازل وبراكين سواءً في مصر أو في تونس أو أن بعضها قد استبعد الحدث بمراجعات خجولة وإجراءات قد تطفئ مؤقتا "حريق" الغضب الشعبي الذي استلهم "نماذجه" مما حصل وصحيح -أيضاً- أن هذه التحولات المفاجئة قد تتعرض لمحاولات تشويه أو التفاف وقد تنتج حالة من الفوضى المؤقتة أو الخسارات والخيبات، لكنها مع ذلك وغيره تشكل "صحوة" حقيقية انطلقت من رحم الناس ومعاناتهم وعكست وعيهم وإصرارهم على المطالبة بحقوقهم بمنطق الانتزاع لا الاستجداء وهي -ربما- أهم حدثاً نشهده في تاريخنا المعاصر منذ أن خرج الاستعمار الأجنبي من بلادنا العربية.
"التغيير" إذن قادم لا محالة والشعوب على ما يبدو مصممة على دفع تكاليفه وهي بالمناسبة اقل بكثير مما دفعته في عهود الاستقلال الوطني التي ترسخت فيها قيم الفساد ونهب الثروات وزواج السلطة بالمال، مما أهدر ثروات المجتمعات وكرس تخلفها وفقرها وجوعها وقد اتضح الآن بما يقطع الشك أن إرادة الناس تنتصر دائما وان الإمعان في السير بعكسها مقدمة لخراب الأوطان والإنسان والعمران وان الحكم الجيد والرشيد هو الوحيد القادر على تجنب هذه المآلات لا بالاعتماد على الأجنبي الذي سرعان ما يتخلى عن أصدقائه وحلفائه ولا بالحلول الأمنية التي ثبت فشلها ولا بمزيد من القمع والاستبداد اللذين تنسد أمامهما أبواب المشاركة والإصلاح ونوافذ التفاهم والتصالح وإنما -فقط- باحترام إرادة الناس والاستجابة لمطالبهم وحقوقهم وخدمة مصالحهم والاعتماد عليهم في الحفاظ على وجود النظام حين يكون هو وجودهم وعلى أمنه حين يكون هو أمنهم أيضاً.
إن أهم درس يمكن أن نستلهمه مما نتابعه من زلازل شعبية هو أن شرعية الحكم أي حكم مصدرها الوحيد الشعب.. فبإرادته يستمر وبعكس ذلك تسود الفوضى وترتفع أصوات التغيير وتنقلب أصول اللعبة وتتغير أدواتها واتجاهاتها وعندئذ لا يستطيع أحد أن يلوم أحداً ولا تجدي الدعوات ولا المسكنات ولا ينفع القريب ولا البعيد.
لا تريد الشعوب أكثر من حقوقها ومن يصون كرامتها ويلبي احتياجاتها البسيطة لا تريد أكثر من "إصلاح" يقف الجميع في مربعه أمام القانون سواء ومن "مساءلة" تحاسب الفاسدين على فسادهم ومن حرية تمكنهم من التفكير والتعبير بدون رقيب أو عتيد، ترى هل هذه كثيرة عليهم؟ هل هي مستحيلة على حكومات أطلقت أيديها في "تدبير" مصالحها بدل تدبير مصالح الناس؟!.
الآن لا يجوز للحكومات أن تعاتب شعوبها أو تغضب من احتجاجاتهم ومطالباتهم لا يجوز لها أن تنتظر أو أن تنحني حتى تمر العاصفة.. فالشعوب أذكى مما تتصور وأقدر على الصبر والتحمل لكن "للصبر حدود" وقد فاض لدى إخواننا في تونس ومصر وحصل ما حصل وبوسع الكثيرون في عالمنا العربي أن يفهموا الرسالة وان يتفحصوا جيداً ما تطالعنا به الشاشات من مشاهد لم يكن أحد يتوقعها، وبوسعهم أيضا أن "يفهموا" الحقيقة الجديدة التي دشنت عامنا الجديد، حقيقة مارد التغيير الذي انطلق ولن يعود إلى القمقم الذي حبسناه فيه منذ عقود.. لا لن يعود.
motazikbal7@gmail.com
معتز إقبال
أنطلق مارد التغيير ولن يعود 2010