ما تعرضت له ولا زالت الناشطة السياسية والحقوقية والصحافية الشجاعة الحرة "توكل عبدالسلام كرمان" من أذى وتعسف وملاحقة وتهديد وإرهاب ووو..، يؤكد بأن السلطة قد ضاقت ذرعاً بالرأي الآخر.. وإنها لم
تعد تطيق احتمال من يخالفها في الخطاب والرؤى والسياسات.. بل إن الإجراءات المحمومة والضربات المتتالية التي تلقاها ويتلقاها الكثير من المفكرين والساسة والصحافيين وأصحاب الرأي الحر الشجاع المنحاز إلى صف
الوطن والمواطن.. تؤشر نحو المدى الذي ذهب إليه الحكم في معاداته للحريات العامة والحقوق المدنية.. وهو مدى أخذ بالاتساع.. يضع الحاكم في مواجهة أسئلة واستحقاقات مصيرية تتصل بهوية النظام وآفاق
تعاطيه مع الديمقراطية كمنظومة متكاملة تبدأ من تركيبة الحكم المنغلقة على نفسها، والمنعزلة عن تمثيل وتمثل هموم الفئات الاجتماعية، وتنتهي بالانتهاكات المنظمة للحقوق والحريات على مختلف الصعد.
ومن دون شك أن ما واجهته وتواجهه السيدة العزيزة "توكل كرمان" تنزع آخر أوراق التوت من النظام.. وتقدم للعالم صورة حقيقية عن ماهيته.. بعيداً عن زيف ادعاءاته الرسمية وخطاباته ذات الطابع المراوغ
الانتقائي تجاه الديمقراطية.. وهو خطاب يمارس نهج الترهيب والقمع وتكميم الأفواه في صعيد الداخل.. فيما يتسم ذات الخطاب بالرحابة المفتعلة أثناء تعاطيه مع الرأي العام الخارجي والمؤسسات الدولية المانحة،
والمنظمات الحقوقية.
والواقع أن ازدواجية كتلك لم تعد قابلة للتسويق الخارجي، وإن خطاباً فصامياً كهذا لم يعد مقنعاً لتبرير تسول الهبات والعطايا والمنح المالية.. فالعالم هو أكبر وأكثر اتساعاً من منابع الحكم وتسريباته الإعلامية.. واليمن أياً
كانت قوة السلطة وجبروتها.. لا يمكن الحفاظ عليه ضيعه بتحكم في مصائر حفنة من صناع القرار.. لقد كسرت ثورة الاتصال الأسوار.. واخترقت الحدود والحواجز المنيعة.. مما صعب أمام الحاكم عملية
المضي بصناعة الأكاذيب، وتغليف سياسته بمسوح أخلاقية.. وحجب الحقائق وسجنها في خزائنه الحديدية!!.
وإذا كنا نسلم بأن حقوق الإنسان لم تعد تمت بصلة للشأن السيادي والشؤون الداخلية، بعد أن أصحبت قيمة دولية، تترتب عليها الكثير من الالتزامات.. وتقرر مستقبل العلاقات بين الدول.. إذا كنا نسلم بذلك المعطى
العالمي.. فإننا نستطيع القول بأسى: إن حكامنا يتفوقون على أنفسهم بتدمير البلاد.. وإدراج النظام القائم الذي هم مثلوه، في جميع القوائم السوداء للدولة الأكثر بشاعة وفضاضة في انتهاك حقوق الإنسان.. من
الحقوق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وحتى التعبير وحرية الرأي.
وماحدث للثائرة "كرمان" هو نموذج يكشف أكثر من حقيقة ساطعة ناصعة.. فهو يكشف عزلة النظام الداخلية بين النخب المثقفة، وعجزه عن بناء قنوات تواصل مع مختلف الأفكار والرؤى والأطروحات المغايرة
والمتمايزة في خطابها ومطالبها مع نهج الحكم والمختلفة مع توجهاته العامة، وهذا الانعزال واستبدال الخلاف المتحضر بحزمة من الإجراءات التعسفية، يسلط الضوء الكاشف على الخيال الشمولي والكوامن "الديكتاتورية" التي
تسيطر على الحكم، وتقود خطاه على نحو متسارع باتجاه القطيعة الكاملة مع ما تبقى للناس من هامش ديمقراطي أخذ بالتضاؤل والاضمحلال.
والموقف العدائي الغاضب الساخط "البوليسي" من الأستاذة "كرمان" يسقط الوهم السائد في صفوف مؤسسة الحكم، والقائل بالقدرة السحرية للهراوة والمعتقل وحزمة القوانين والتدابير الاستثنائية، في لجم الأفواه وكتم
الأنفاس المعارضة، والتقليل من إمكانية تأثيرها، وصناعة وضع سياسي يملك بين يديه كل مفاتيح الاستقرار الداخلي.. ويطل على الخارج بعباءة فضفاضة وقفاز ديمقراطي يخفي يديه الملطخة بدم الحريات المهدورة.
التظاهرات والاعتصامات والبيانات والكتابات الصحافية التضامنية مع "توكل كرمان".. وجمع التوقيعات.. وإيصال صوت المخالفين إلى داخل وخارج الوطن.. مثل انعطافة جادة باتجاهين:
الأول: بتنويع أشكال المواجهة وإدارتها.. والثاني: صياغة وعي تضامني جديد ينتصر للحقيقة والحريات العامة ويسمو فوق صغائر الخلاقات الثانوية، والمماحكات السياسية وسباق تسجيل المواقف.
ومجمل الدروس التي لم تنته وحشدها لممثلي نخب الصحافة والسياسة والثقافة والفكر بمختلف انتماءاتهم ومشاربهم وكذا طلاب الجامعة وحتى المواطن العادي، يؤسس لمنطق بديل في كيفية إجبار الحكم على احترام الرأي
الآخر.. ويجعل لكل من مغامر فعلاً معاكساً ومحفوفاً بالمخاطر.. ترفع من كلفة فواتير النظام الداخلية والخارجية.
حقاً.. إن "كرمان" تعاني.. ولكنها ترسم على الأرض لغة أخرى.. وأداء ونضالاً جديداً.. في مقارعة الظلم والطغيان.. والانتصار لإرادة الشعب.. الانتصار لحرية الرأي والتعبير والحقوق
المدنية.. الانتصار لحرية ونظافة ونقاء الحرف وصدق الموقف والتضحية.
ترى هل ما تعيشه "كرمان" وما حدث لها سيخرس صوتها ويجعلها تركع وتخنع ويفقدها الحركة و"يضبطها ويجعلها رهن الإقامة الجبرية في المنزل" حسب التهديد "الرئاسي"؟.. أم سيجعلها أكثر حضوراً..
وريادة.. وولادة أجد؟.. إنه ونقولها بملء الفم سيكون حضور.. وريادة.. وولادة أجد.. هذا ما ندركه نحن ويعجز عنه النظام.. وإن غداً لناظره قريب.
alhaimdi@gmail.com
محمد الحيمدي
توكل كرمان.. حضور.. وريادة.. وولادة أجد 1909