الميزة الوحيدة لديمقراطيتنا أنها أشبه بسوق "عكاظ" تعطي الحق لعضو مجلس النواب ان ينتقد السلطة عبر القناة الفضائية، لإيهام الآخرين أن حرية الرأي في بلادنا وصلت حد نقد الرؤوس الكبيرة داخل السلطة، كما تعطي
صحف المعارضة وغيرها من الصحف المستقلة والأهلية حق النقد الخفيف الذي لا يفضح المستور، وما عدا هذا الصراخ الديمقراطي، لا نرى أي مظهر حقيقي من مظاهر الديمقراطية.
فنحن كشعب متخلف بتركيبته القبلية البدائية، لم نختر الديمقراطية لتعطينا السلطة حق نقد بعض عيوبها السلبية فقط، لكي تتخذ من هذا النقد شهادة تقدير أمام الغرب للحصول على مكافأته المالية، مقابل نقد لا تتأثر به السلطة، ولا
تأخذه بعين الاعتبار، وإنما اخترنا الديمقراطية لنقل واقعنا القبلي الذي يفقد المواطن حريته، بدمجه في كتلة قبيلته، فيصبح أسير أعرافها البدائية التي تغرس فيه روح العصبية للقبيلة، فلا ينتخب لمجلس النواب إلا شيخها أو من يرتبط
به عشائرياً، فيفقد المواطن أولاً روح المواطنة –أي الولاء للوطن كله.
ثانياً تفقد الديمقراطية مضمونها المدني والحضاري، لهذا قلنا أننا اخترنا الديمقراطية كمشروع حضاري لنقل واقعنا القبلي إلى مجتمع مدني تحكمه المؤسسات الجماهيرية والرسمية، ودولة النظام والقانون ودستور يحدد حقوق
المواطن وحرياته وواجباته، ويحدد حقوق السلطة وواجباتها ليلتزم به الجميع الحاكم والمحكوم، ومن خالف نصوصه خضع للمحاسبة والمساءلة أمام القانون الذي يحكم الجميع.
ولكن السلطة في بلادنا بدلاً من أن تسعى لتهيئة الظروف على الأقل لبناء المجتمع المدني أوصلت القبيلة إلى سدة الحكم، وهذا الوضع أتاح الفرصة لزبائن السلطة وبعض مشائخ وأعيان ووجهاء البلد، إلى الاعتداء على حقوق
المواطن ونهب ثروات اليمن السعيد، تحميهم العصبية القبيلة وبغياب دولة النظام والقانون نجا كل هؤلاء من المحاسبة القانونية، ولم يخضع للمحاسبة إلا عدد من صغار الموظفين الذين لا تسمح رشاويهم القليلة أو سرقاتهم المحدودة
للمال العام التي غالباً ما تدفعهم "الضرورة" إليها، إلى تقسيم غنيمتهم لزعيم قبلي أو عسكري أو مسؤول كبير لحمايتهم من الخضوع لطائلة القانون.
هذه الوضعية دفعت بعض أبناء القبائل المحرومين من الغنائم المباحة، إلى الخطف والسلب والنهب وفي مجتمع ساهمت في السلطة إلى غرس روح الغنيمة التي صادفت هوى نفوس بعض زعماء القبائل كون الغنيمة جزء من بنية
العقلية القبلية تاريخياً، وهذا النهب لحقوق المواطن وحوار الدولة وفي غياب الردع القانوني الصادم.
وفي ظل الفوضى القانونية والإدارية والسياسية كل هذه الأمر جعلت المجتمع اليمني عرضة للنهب والسلب والرشوة والفساد الإداري والانفلات الأمني، وبضياع موارد الدولة بواسطة أجهزتها الايرادية، ضعفت عملية التنمية،
فتكون جيش من العاطلين وزادت نسبة الفقر، بانخفاض مستوى معيشة الفرد وارتفعت نسبة المتسولين، وأصبحنا على أبواب المجاعة.
صحيح أن هذه الوضعية ساهمت فيها عوامل مختلفة قد لا تكون للسلطة يد فيها،ولكن أهم هذه العوامل كلها سوء الإدارة وفسادها واحتماء رموزها تحت جناح القبيلة أو بعض رموز المؤسسة العسكرية.. لأن المقولة أو المثل
يقول "أعطني إدارة نزيهة وكفؤة بموارد قليلة أعطيك حضارة.. أو إدارة فاسدة بموارد ضخمة أعطيك تخلف".
إذن الديمقراطية ليست عملية انتخاب رئيس أو عضو للبرلمان، وإنما هي مشروع حضاري متكامل من أهم أولوياته التنمية والتحديث، ولكن الديمقراطية في بلادنا جرى وتجري "قبيلتها".. بحيث أصبحت مجرد متنفس للقبيلة
والعشيرة والطائفية للتعبير عن حقوقها البدائية، بينما مؤسسات المجتمع المدني بما فيها المؤسسات الجماهيرية التي تشكل القوة التي تملكها الجماهير في مواجهة السلطة وجبروتها، ليس لها وجود فعلي في بلادنا، بعكس الديمقراطية
الصحيحة يتم الاعتراف الرسمي بمثل هذه المؤسسات وحقها المشروع في النضال السلمي ضد السلطة بكل الوسائل السلمية، لإجبارها على احترام حقوق الإنسان والاحترام، التي كفلها الدستور، بل أن هذه المؤسسات الجماهيرية
بما فيها الصحافة تجبر أو من حقها أن تجبر السلطة على محاكمة أكبر رأس إذا أخل بالقوانين النافذة والدستور المعمول به.
بينما في بلادنا يتم إجهاض المؤسسات الجماهيرية ومسخها، فالنقابات على سبيل المثال تتدخل السلطة في اختيار قياداتها، لكي تدور في فلكه وتسبح بحمدها، فينتفي دورها في الدفاع عن حقوق الجماهير.
وحتى البقية الباقية من الديمقراطية ممثلة في حرية الصحافة، عليها أن تقف أمامها خطوط حمراء لا يمكن تجاوزهاـ لأن عقلية القبيلة لم تتعود على احترام حرية الرأي، بل تعتبره عاراً ويجب إسكاته، فالفاسد إذا فاحت رائحته قد
يقبل الحل العرفي الذي يرضي الجميع بما فيهم الفاسد نفسه، ولكنه يرفض النقد الصحافي أو الخضوع للمحاسبة القانونية، وهما أهم مميزات الديمقراطية والمجتمع المدني، إذن أين هي الديمقراطية التي تتباهى بها السلطة؟!.
محمد الحيمدي
ديمقراطية مع وقف التنفيذ! 1603