دخل العام الهجري الجديد وأقول الهجري لأننا من خلال التأريخ الهجري نتعبد لله به فقد قال تعالى (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ) فنحن نتعبد لله في كل حركاتنا وسكناتنا كما قال تعالى (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ ).
ولهذا لما اجتمع الصحابة في السنة السادسة عشر للهجرة لمناقشة وضع تأريخ رفضوا أن يؤرخوا بالتأريخ الرروماني أو الفارسي، فكان التأريخ الهجري ، إننا أمة تحافظ على تميزها العقدي والفكري والسياسي ، وتميزها الاخلاقي ، وهذا ما تفعله جميع شعوب الأرض.. وللأسف الشديد أن الأمة اليوم تعيش مرحلة انهزام نفسي خطير، على إثره صارت تستجلب قاذورات الغرب لتزرعها في فكرها وأخلاقها ، وقيمها ، وسياستها ، وتعاملاتها.. فهل نتعلم من التأريخ الهجري الخروج من هذه المرحلة المنحطة؟.
كما أننا في عامنا الجديد نحتاج أن نقف مع أنفسنا وقفة حساب ، والعام الذي ذهب هو الذي يجب أن نقف معه في المحاسبة واعني محاسبة النفس كما كان سلف هذه الأمة يفعل.. فقد كان ابن مسعود يقول " لا أندم الا على يوم مضى من عمري ولم يزداد فيه عملي" وهذه هي النظرة الايمانية الصادقة لمعرفة حقيقة الانسان الذي يمثل قالب ثلج، كلما مر يوم ذهب بعضه.
إن أعمال الإنسان هي بالنسبة للوقت تراكمية ، سواء كانت صالحة أم طالحة ، وكلما مر يوم من عمر الانسان أقترب هذا الانسان من الله عز وجل .. ولمن كان لديه هذا الحس الايماني لابد أن يكون مع الله أكثر صلحاً وأمتن علاقة وأكثر صفاء .. ماذا لوأن انساناً قيل له بقي من عمرك كذا يوم أو كذا شهر فستجده يعلن حالة الطوارىء سيتفرغ للعبادة أكثر وسيقرأ القرآن ويحسن العبادة ، ويحسن العمل ، هذا لمن كان بينه وبين الله صلة ولو ضعيفة أما من عصى الله بكبر وعجب فإن مثله كمثل إبليس يحرم من التوبة ـ ووالله لقد زرت أحدهم في قريتي وكان هذا الرجل مشهور بالعصيان وشرب الخمر وقطع الصلاة فأصيب بالشلل.. فلما ذهبت لزيارته وأنا في باب قريب من المنزل أسمع أغاني فقلت في نفسي "سبحان الله كيف يروق لأهله أن يسمعوا هكذا أغاني ولديهم رب البيت مشلولاً" ولما دخلت وجدت أنه هو الذي يقضي أغلب وقته مع الأغاني والمسجل بجواره ، فنصحته بانك مقبل على الله ، يجب أن تقرأ القرآن وتكثر من الاستغفار ، ولكنه مسكين لم تنفعه النصيحة وقد مات نسأل الله السلامة.
أقول: هذا المثل ليعلم الجميع أن الرهان على الزمن في التوبة هو رهان خاسر.. فالله عز وجل لا يمنح الثبات والتوبة لمن تمرد عليه متكبراً وفي مدينة من المدن اليمنية جيء برجل الى ساحة الإعدام ، وقبل تنفيذ حكم القصاص قيل له صلى ركعتين فنظر اليهم قائلا (مش ضروري.. اعطوني حبة سيجارة )وهكذا يطمس الله على كثير من القلوب، ولو قرب رحيلها الى الله ، وهذا مغزى قوله تعالى " يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ".
ولهذا الرهان كل الرهان على معرفة الله في الرخاء كي يعرفنا في الشدة ، الرهان كل الرهان أن تظل علاقتنا بالله دائمة ، وأن نستيقظ اذا غفلنا ،وأن نتوب اذا عصينا ، وأن نلبي إذا دعينا ، وأن نكف اذا نهينا .
كم نحن بحاجة أن نشعر بقيمة الوقت وبفداحة الخسارة إذا مر ولم يستثمر مع الله ، فالكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والفطن من ألزم نفسه طريق الخير وخطمها بخطام الشرع، والإنسان لا يخلو من حالين، فإن كان محسناً ازداد إحساناً وإن كان مقصراً ندم وتاب قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.
وقد أجمل ابن قيم الجوزية طريقة محاسبة النفس وكيفيتها فقال: "جماع ذلك أن يحاسب نفسه أولاً على الفرائض، فإن تذكر فيها نقصاً تداركه، إما بقضاء أو إصلاح، ثم يحاسب نفسه على المناهي فإن عرف أنه ارتكب منها شيئاً تداركه بالتوبة والاستغفار والحسنات الماحية، ثم يحاسب نفسه على الغفلة، فإن كان قد غفل عما خلق له تداركه بالذكر والإقبال على الله.. وصلى الله على محمد والحمد لله رب العالمين.
محمد الحزمي
عام جديد ...تميزُ ومحاسبة 2204