وقد مكثنا في مباحث الشرطة ثلاثة أيام نقلنا بعدها إلى فيلا الهرم التي يحتجز فيها كبار المسؤولين المصريين، فشعرنا أننا ما زلنا شخصيات محترمة، وما زلنا رجال دولة، وقلنا: هي أيام وتنتهي عملية الاعتقالات، استمر بقاؤنا شهراً تقريباً في الفيلا، وخلال هذه المدة انضم إلينا الأخ محمد الخاوي بعد اعتقاله، وأصبح عددنا ستة أشخاص محتجزين في الفيلا.
والذي حدث بعد اعتقاله أننا كنا جميعاً متحمسين ومتألمين جداً، لكن أحدنا كان يتكلم بألفاظ كان فيها مبالغة وواحد يتكلم بهدوء، كان هناك تسجيلات أو من يسترق السمع، هذا أمر طبيعي في معتقل، الآخر علي الربيدي ومحمد الخاوي كانا يتكلمان بانفعال عن المصريين وعلى النظام الذي أوصلنا إلى هذا الوضع المؤسف. . وفيه نوع من الحماس والنقد، ومن سوء المعاملة بأن الاعتقالات غير مقبولة، لأننا دولة والعروبة فين هي؟ والأخوة العربية فين؟ والدماء فين؟ تضحياتنا فين؟ نحن -المعتقلين- الذين صنعنا الثورة واحنا اللي كنا كذا. . . كلام مكرر ويتكرر في كل يوم، والجدران لها آذان فنقلوا الأخ العميد علي الربيدي والأخ المقدم محمد الخاوي إلى سجن الحربي بملابسهم التي عليهم لمدة 15 يوماً، ولم يغيروا تلك الملابس، في حرارة صيف القاهرة الشديد، وحين عادوا إلينا بعد 15 يوماً على الرغم مما حدث لهم استمروا على الطريقة نفسها يتكلمون، دونما تغّير، لأن المبادئ والمواقف الوطنية صلبة.
ومن النكت الجميلة لعلي الربيدي نكته خفيفة مُسيسه قلنا: يا أخ علي ما كنت تتوقع وأنت في الزنزانة في السجن الحربي؟
قال: ننتظر ليل ونهار بالملابس هذه متى عيطلعونا؟ متى سنخرج من السجن؟ احنا ناس محترمين؟ أنا ما جئت إلا أتضامن معكم. . . السلام هو ابن خالتي قريبي. . قلنا: ما الذي شفته؟ قال: ولا شيء غرفة مظلمة، زنزانة لا نعرف أين نقضي حاجة داخل الزنزانة "15يوماً" لا حمام ولا شمس، كله في الزنزانة!.
بعدما غيرا ملابسهما وأخذا قسطاً من الراحة، قلنا للأخ علي الربيدي: ما الذي كمنت تتمناه وأنت في الزنزانة قال :" والله ما كنت أتمناه إلا وأنا في سجن الرادع أو القلعة في صنعاء، وأعمل لي جمنة قهوة، أما السجن الحربي هذا ما أحد يطيقه، كله في الزنزانة!".
وبعد عودتهما بأسوبع أضربنا عن الطعام لمدة ثلاثة أيام مؤملين أن الإضراب سوف يؤثر لدى المسؤولين المصريين، وربما يُسأل علينا من الناحية الإنسانية على الأقل.
وفي اليوم الرابع زارنا اللواء وحيد مدير مكتب شؤون اليمن يعاتبنا، ويقول لنا: انتوا أحرار وشرفاء، فالقضية هي توقيف للمراجعة، ما فيش أي شيء مزعج ، وفعلاً أقنعنا وتراجعنا في اليوم الرابع ووجدنا أن الإضراب عن الطعام ليس له معنى عند الإخوان في مصر!. . ووجدناها فرصة للعمل بنصيحة اللواء وحيد الذي تكلم معنا بكلام طيب، وأبلغنا بأنه سيفرج عنا قريباً، وقال: أنتم رجال دولة، وإنما هي فترة مراجعة وفترة انتظار وحرصاً عليكم، قلنا: الحرص علينا في السجن والزنزانة، هذه الحالة لا يجوز أن نعامل بها ولسنا مجرمين، لنا وجهة نظر في معالجة قضايانا وخلافاتنا مع بعضنا بعضاً، أنتم العون لتقريب وجهات النظر بين الأطراف اليمنية، وثقتنا كبيرة بالرئيس عبدالناصر والمشير عبدالحكيم عامر، لأننا مؤمنون بالقيم والأخلاق العروبية التي تعلمناها منه.
وبدأنا نراجع أنفسنا ولأننا أصحاب موقف، قلنا له : نفكر في الموضوع قال: أنا نصحتكم وأنا جئت أطمئنكم أنه ليس عليكم شيء وانتم من رجالات البلد وزملاؤنا وإخواننا! وبعد مغادرته أنهينا الإضراب وصدّقنا أن الإفراج عنا قريب.
ثلاثة عشر شهراً وأحد عشر يوماً في السجن الحربي
بعد الزيارة والوعد من اللواء وحيد بالإفراج خلال أسبوع نقلونا إلى السجن الحربي، في ليلة ظلماء، جاؤونا في الليل ونزلنا السجن الحربي، وما أدراك ما السجن الحربي! كل واحد منا أقفل عليه وحيداً في زنزانة انفرادية بعد اتخاذ الإجراءات التي يعامل بها المسجونون.
وأعطونا ما يشبه منامات ننام بها على الأرض، وأعطونا بطانية فقط للفرش والغطا وملابسنا، وعملنا من ملابسنا "مخدة" ننام عليها.
وكانت مرقمة. . كنا مسجونين بكرامتنا، في زنزانة مغلقة نخرج في اليوم مرتين في الصباح وفي المساء بعض الأوقات من 9إلى 10 حينما يرغب السجان يخرجنا في الصباح ، وكذلك في المساء في آخر النهار ولدينا القصريات لكل شيء!
وعند الضرورة في الزنزانة القصريات موجودة نغسلها ونرجع بها، ووجدنا أننا في وضع محزن جداً، موقف لم يخطر على بالنا ولا فكرنا به، ولا نستحق هذا الموقف القاسي بعد المعاناة في الحرب، أربع سنوات من 1962 إلى آب/ أغسطس 1966م ونحن في مواقع عسكرية نقاتل هنا وهناك، ومعظم زملائنا ماتوا شهداء راحوا ضحية الدفاع عن قضية وطن، كذلك إخواننا المصريون كنا ننظر إليهم نظرة الإخوة ونظرة التعاون، والخلاف في وجهات النظر وفي الآراء خلافات طبيعية لم نكن نتوقع السجن على الإطلاق.
والحقيقة أنه لا تناقض مطلقاً حول ما يسمى الآن بالثوابت الوطنية أو الثوابت العروبية أو الثوابت اليمنية، كان الخلاف في وجهات النظر، هذا يكون كذا وهذا يكون كذا، وقد أكون على خطأ أو قد نكون نحن قاصري النظر وقتها في بعض المسائل، لكن أن نتعرض للسجن وزملاؤنا للإعدام في صنعاء فما كان يخطر في بالنا مطلقاً أن يحدث ذلك.
مكثت في السجن الحربي 13 شهراً و11 يوماً من 16 آب/ أغسطس 1966م إلى 11 تشرين الأول / أكتوبر 1967م من يوم الاعتقال إلى يوم الإفراج، كان يصيح السجان علينا إذا تأخرت في الحمام دقيقتين فيقول: اطلع يا كذا. اخرج يا ابن كذا !! كما هو معروف ومشهور في السجن الحربي.
مكثنا فترة، ثم بدأت التحقيقات خلال ال 5-6 أشهر الأولى في السجن وكلها تحقيق، كل شهر تحقيق، وبدأ التحقيق معي بعد شهر من دخولي الزنزانة في السجن الحربي، وكل واحد منا يأخذ دوره بحسب قرار المحققين والوقت المحدد لكل واحد منهم، كان معي تحقيق كامل من الأول إلى الآخر لم أكذب في كلمة واحدة.
وكان يتولى التحقيق ضابطان أحدهما صبري- الله يطوّل في عمره أو يرحمه - صبري هذا كان إنساناً محترماً جداً. . . وهو ضابط مخابرات حربية، والمرة الثانية حقق معي المقدم جلال الذيب رئيس الاستخبارات العسكرية، ويعمل الآن محامياً، وقد تعرفت عليه بعدما خرجنا من السجن، ضابط لديه وعي سياسي، درس القانون بجانب الدراسة العسكرية، وكان المقدم قاسياً جداً ، ويطلق التهديد والوعيد، والسجانون واقفون بسياطهم في بوابة المكتب يستمعون.
وكان هناك ضغط نفسي شديد ، وهذا عند المحققين هو الأسهل يأتون بأدوات التعذيب البدنية، وكان التحقيق بما هو معتاد: السؤال والجواب،وتكلمت دوماً بما حدث ، كما شرحت الأحداث كلها بصدق وصراحة، وبالنسبة إليّ لم يمسّوني بسوء عدا الجانب النفسي، لأن التحقيق كان قاسياً جداً، انتوا كذا أنتوا تعرفون، أنتوا كذا.
أما التهمة فقد كانت تتمثل في المعارضة للمشير السلال، ولماذا؟ وكيف؟ ووو إلخ. . أجبت بكل صدق وبكل أمانة. . . كانت نظرتنا تتلخص بأن المشير السلال يستفز كثيراً من الناس ومن القبائل، وبالمواقف السابقة التي شرحتها من أولها إلى آخرها دون خلاف، وبصدق الوطني، لو تكرر ما حدث فسوف أعود أتكلم عنه.
الحمد لله كان موقفنا واضحاً. . وكنا نقول لا نريد من إخواننا المصريين أن يظلوا في اليمن إلى ما لا نهاية، هذا كافٍ، وأن المشير السلال - الله يرحمه- غير قادر على أن ينهي الحرب المأساوية في البلاد ورؤيتنا صادقة لمصلحة اليمن، ولمصلحة الجندي المصري الذي يعاني القتال والبقاء في الجبال.
وفي التحقيق الثاني الذي تولاه المقدم جلال الذيب لأنه كبير المحققين ورئيس الاستخبارات العسكرية. . الذي تم بعد شهرين من التحقيق الأول، كان جلال الذيب فيه بارعاً ومناوراً في كلامه، فقلت له باللهجة اليمنية: أخي، الله يطول في عمرك قل ما أكتب وكل ما تريد، صدق أو كذب! أي شيء تريد تقول أنا أوقع عليه والموت هو النهاية، لا تتطاول علي ولا تضغط علي أكثر من هذا. . أنا قلت ما حدث وهو أخطر كلام أقوله لك. . رئيس الجمهورية تبقونه عندكم. . ! أثمة أكثر من هذا؟ قد أستحق عليه عقوبة كبيرة إذا كان بالمفهوم العدائي، أما المفهوم الوطني والمفهوم القومي فهذا موضوع آخر، لكن إذا أنت تريد تلقني كلام أقوله وأكتبه وأوقع عليه أنا على استعداد للتوقيع على ذلك، فكان رده: قم قم يا أخي، القضية قضية سياسية ما فيش عليك حاجة، ولا عليك حاجة، ارجع روح زنزانتك.
أنا ارتحت حينما رد على نرفزتي بهذه الطريقة وعرفت أنه التصرف المناسب وبالتوقيع على أي شيء يسجله أو يكتبه.
وقد كان مضمون كلامي: أنت تريد مني أن أكذب؟ لا. . اكذب أنت وأنا أوقع على كذبك. قال : قم يا حسين أنت ما عندكش أي شيء، نحن نعرفك، أشاد بي وأشاد بمعرفتنا وقال : تقاريرك لدينا كويسه، والقضية سياسية مالهاش علاقة بالموضوع هذا، يالله أرجع زنزانتك. . هذا الموقف الذي ذكرته هو موقف التحقيق الذي تولاه في المرة الأولى الرائد صبري والمرة الثانية جلال الذيب. . وكل تحقيق كان يستمر جلسة واحدة ، إذ لم تكن قضية ، هو نوع من وضع غطاء للاعتقال. <