مطلع الأسبوع، أصدرت مجلة بانيبال قائمة بأفضل مائة رواية عربية. رواية الرهينة للكبير/ زيد مطيع دماج، كانت في الترتيب 42، وهي الرواية اليمنية الوحيدة التي ضمتها القائمة، بخلاف القائمة التي أصدرها اتحاد الكتاب والأدباء العرب سنة 2000 بأفضل مئة رواية عربية في القرن العشرين والتي ضمت إلى جوار الرهينة، رواية يمنية أخرى هي: صنعاء.. مدينة مفتوحة للأديب/ محمد عبدالولي. لائحة بانيبال، جعلتني أعود للرهينة من جديد، مع أني كنت قرأتها أكثر من مرة من قبل. عمل مكتوب بسلاسة، رشاقة في سرد الأحداث، رشاقة في الصياغة، وأسلوب غير معقد، والأهم من ذلك أنها غاصت في تفاصيل قصر الحاكم، الإمام وقتئذ، ونقلت صورة الحياة السيئة لتلك الحقبة. في "خريف البطريرك" ينقل لنا الكاتب الشهير ماركيز، تفاصيل القصر، ديكتاتورية الحاكم، مكائد الجنرالات ودسائسهم، ومن خلال الصورة العامة للحكم يستعرض النزوات الجنسية للقصر. في "الرهينة" يفعل دماج العكس، من خلال إيماءات المجون والخلاعة في قصر الإمام، ينقل صورة تاريخية للحياة العامة، ومن دون أن يكتب صراحة أي مشهد جنسي فاضح. كان الإمام يأخذ أشخاصًا كرهائن من القبائل كي يضمن ثبات حكمه، يتركهم في قصره، سجنه، وخدامًا لأهله. البطل، هنا، يقع في شباك "الشريفة حفصة" وهي أخت النائب الصغيرة، المدللة والمطلقة أيضًا. كانت "تعز" عاصمة الإمام.. ومن قلعتها القاهرة التي تطل على المدينة، كان البطل مأسورًا برؤية المدينة، يريد أن يشم هواء، الهواء معناه الحرية، أن يتمشى في المدينة.. "أن نشم هواء آخر.. نرى الناس.. أن أجد أي شخص من بلدتي ممن يبيعون البصل والثوم والبطاطة في السوق، أسألهم عن حال أسرتي! ـ أبوك الهارب يلهب الدنيا بلسانه الطويل على الإمام في الجرائد، في عدن، وحالة بلدتكم سيئة" يقول له صديقه. حين ينزل إلى المدينة يتفاجأ من حالها: "الوجوه شاحبة تعلوها مسحة لون أصفر مقيت وباهت" "جموع منهكة من المتسولين والمرضى والمجانين نصطدم بهم في كل منعطف" "من وسطها وفي أحشائها عرفتها على حقيقتها.. إنها بؤرة للوباء المميت.. مليئة بالمرضى والمجانين وأصحاب العاهات والمعوقين والحكام الظالمين.. إنها مدينة تعيسة وبائسة غاية البؤس.. وكم تمر كل يوم جنائز الموتى من أبواب سورها". "ما كان أجملها من مدينة من عل، وما أحقرها اليوم في نظري من مقبرة حية، وليتها كانت صامتة". يرسل الرهينة للعمل عند الشريفة، وهناك يكتشف مجون نساء القصر ورواده، دون أن يطلق عليهم النعوت الفاضحة، ليكتشف القارئ بأن: الدويدار ينام مع النساء.. والشاعر المداح المقرب من ولي العهد، شاذ. الطبشي العجوز له نزواته، وقد فدغت بغلة النائب رأسه ولاك القصر حكايته المحرجة ما حدا بالنائب أن يأمر سائسه بخياطة فرج "زعفرانة" اسم البغلة، وكذلك البهائم الأخرى. "ضحك صاحبي وهو يقول معلقًا: كان على النائب أن يأمر بخياطة فروج نساء القصر". تستغله الشريفة لينقل رسائلها إلى الشاعر، تنتابه الغيرة فيتوقف فتأمر العساكر بتقييده.. صورة أخرى لجموع الجياع والمرضى من العوام وهم يحتشدون ليرون عودة بن النائب "الضفدع" ومعه آلة عجيبة "السيارة". يتم الإفراج عنه، ويذهب مع نسوة القصر في زيارة بالسيارة إلى قصر ولي العهد، تكون الشريفة من بينهن.. يخدمها ثانية، وهناك يفتعل الرهينة "الدويدار" المشاكل، حتى أنه يضرب الغلام المقرب من ولي العهد، ابنه من علاقة غير شرعية. في العودة يقفر ليهرب منها عند الأصيل، فتدركه.. تقارب.. تباعد.. تدافع عنه الشريفة حفصة وتبكي عند النائب. تصالحه، ترشيه بقبلة ثم تطلب منه حمل رسالتها إلى الشاعر ـ أنت تحلمين ولا تحبين. صديقه الدويدار "وهو الغلام الظريف"، المحظي لدى نساء القصر، ينصحه دون جدوى. مع الأيام يمرض، وفي المدينة كلها، التي تعد عاصمة للإمام، طبيب واحد يصرف علاجًا واحدًا عند الخطورة وعند مراجعة الطبيب. في القصر يحرمون السجائر، لكنهم يسكرون ويربطون على خصورهم ويرقصون. الشريفة حفصة تعيش في جحيم، وتريد أن تغادره. "قالت بصوت لم أعهده فيها من قبل، صوت مشوب بالخذلان والانهزام: "أريدك أن تنقذني"... "ومن ينقذني وينقذ هذا البلد أيضًا". لا نالت الحب ولا اكتمل الحلم ولا واتتها الشهرة اللائقة. يصيغ مشهدًا يدع فيه القارئ ليتخيل الباقي، إذ لا يذكر ما تم فيه: "أقفلت الباب ووضعت يدها حول عنقي لكي تذيبني في قبلة أخرى أصبحت بعدها كمعدن مصهور في أتون صائغ أو حداد، ورشفت من فمها أجمل القبل وتلمست يداي جسمها الرخو الذي كنت أحلم به منذ زمان، وهجعت معها في لذة صاحت لها ديوك الفجر". يمرض الدويدار.. صاحبنا تحول إلى خادم. " منذ فترة لم يطرق أذني ذلك الرنين الساحر الصادر عنها.. كم هو رائع! في بلادي التي حكيت لها عنها العجاب.. استضعفوني واعتدوا على أسرتي.. وصادروا كل شيء.. مسخوني إلى رهينة ودويدارًا ثم خادم في بلاطها وبلاط أخيها النائب!. لكأن صوتها الرنان ينزلق الآن في رفق ويحول الصدى إلى موسيقى ذات أنغام حالمة!." ترتبط الثورة بحالة الدويدار، كأنها انسلخت منه.. ييأس الدويدار من الحياة، يتم قتل الإمام فينتشي، لكن الثورة تفشل ويقتحم "ولي عهده" صنعاء ويبيحها للسلب والنهب، وهنا يموت الدويدار. أراد دماج أن يقول شيئًا من خلال القصة. وتكمن عظمته في تقدير هدفه الحر للقارئ. يحزن البطل لموت صديقه الدويدار، تواسيه الشريفة، وتعطيه من عطرها الثمين ليصبه على جثة صديقه.. هؤلاء لا يمكن إلا أن يهدونا عطور الجنائز، يسيرون إلى المقبرة ومعهم الشريفة أيضًا. الفرق بين الواقع والأدب: المبالغة.. إذا لم يكن هناك مبالغة فما جدوى الكتابة إذن، نقل الواقع كما هو ليس إبداعًا، فبإمكاننا أن نطالع الواقع ونكتفي به عوضًا عن القراءة. المشهد الأخير في المقبرة: جاء الظهر وهم في المقبرة، الشريفة والرهينة. غربت الشمس وهما في المقبرة أيضًا.. "ليت حياتنا كلها أصيل دائم نحلم فيه بمرح الحشاشين وخيال وطموحات السكارى وبحرارة توقد أفكار المقيلين بالقات". هجم الليل وتسأله: "ما المبرر لبقائنا وحدنا في المقبرة؟" كانت تمنحه كل المغريات، وتوفر له شكلًا هانئًا للعيش في القصر، أن يكون مقربًا من أخت النائب التي أحبها وبدأت تبادله الحب. وكان بإمكانه أن يأخذها معه هاربًا، لكن ذلك سيقتل الحرية. أراد دماج أن يقول: لا فائدة من هؤلاء وإن أضمروا لنا العاطفة. لذا، البطل، تركها في المقبرة وهرب: "تلقتني ظلمات الجبال المطلة على الوادي الموحش المنحدر إلى المستقبل المجهول وأنا أتوقع صوتها أوحجرًا مقذوفًا منها سيقع على ظهري.. لكنني كنت قد قطعت مسافة كافية في طريق جديد مؤد إلى المستقبل.. مخلفًا ورائي صوتها المبحوح المحبب إلى قلبي.." الرهينة عمل عبقري.. غير متكلف.. متزن وذو قيمة.. وإذا كان للترتيب الرقمي الذي أظهرته مجلة بانيبال قيمة، فقد أخطأت التقدير.. الموضوع الذي ناقشته رواية دماج بتلك البساطة والجراءة لم يقترب منه أي أديب آخر.. وجزالة دماج تشبه جزالة الطيب صالح، ولكل أسلوبه وحكايته.
سلمان الحميدي
الرهينة من جديد 913