من نافل القول إن كل الأوطان في العالم صغيرها وكبيرها، غنيها وفقيرها تتمتع بالحد الأقصى من ولاء أبنائها وحبهم لترابها ووحدتها وتراثها للغتها. ووحدنا نحن العرب نكاد نكون الاستثناء في غياب هذا الولاء لوطننا العربي، رغم أننا جميعاً ننتمي بحكم الواقع التاريخي والجغرافي واللغوي والاقتصادي إلى وطن واحد هو الوطن العربي، الذي يسكن أبناؤه بين المحيط والخليج . لقد توزع ولاء أبناء هذا الوطن الواحد إلى ولاءات قطرية لم تلبث هذه الولاءات القطرية أن تحولت إلى ولاءات طائفية وحزبية ومناطقية، وضاع الولاء الكبير والشامل وتفرقت تجلياته في هذه الولاءات الضيقة، التي كلما زادت وتعمقت زاد ضعف الوطن الكبير وضعف القطريات أيضاً ومكنت للأعداء من بسط هيمنتهم ومن استغلال الخلافات الطائفية والحزبية والمذهبية والإبقاء على هذه الانقسامات الفسيفسائية المتقاتلة والفاقدة لكل مقومات البقاء لهشاشة تكويناتها من ناحية ولفقدانها مشروعية الاستمرارية في الوجود من ناحية أخرى.
وفي تاريخ الشعوب والأمم الكثير من الدروس، التي تؤكد المصير المحتوم والمحسوم لمثل هذه المكونات الطائفية والفئوية المجزأة عن الأصل الواحد، وفي مصير الدولة العربية الأندلسية يتجسد الدرس الأكبر والأوفى، إذ أن هذه الدولة بعدما بلغت شأناً عالياً من التطور الحضاري والرقي الاجتماعي والسياسي وما حققته من تأثير علمي وثقافي على المحيط الأوروبي، الذي كان سادراً في خلافاته وضعفه الفكري والصناعي، بعد ذلك التوهج كله دبت عوامل الاختلافات العرقية والطائفية ولعبت المطامع الذاتية دوراً في تقسيم الدولة الكبرى إلى دويلات ضعيفة ومتناحرة تستجدي حماية الأعداء ولا تتردد كل دويلة في مناصرتهم على الإطاحة بالدويلات الأخرى المنافسة إلى أن سقطت آخر تلك الدويلات في "غرناطة" وانتهى بسقوطها أعظم نموذج حضاري عربي في تاريخ الإنسانية .
وكأن ما حدث ويحدث اليوم في الوطن العربي تكرار لتلك المأساة التاريخية وتأكيد على مقولة أن التاريخ يعيد نفسه.. صحيح أن هناك اختلافاً واسع المدى بين المسرحين اللذين تجسد فيهما الموقفان أو بالأصح المأساتان، إلا أن الأسباب والعوامل تتشابه وتكاد تكون واحدة وفي مقدمتها الاختلافات الحادة بين القيادات والطمع في الحكم وما جر إليه من تقسيم الدولة الواحدة إلى مجموعة دويلات متصارعة ومتنافسة وتشتيت القوة وتركيزها على "الشقيق" وإهمال العدو، كل ذلك كان وراء ما حدث.. وهذا كان الدرس الأندلسي بمضاعفاته وما تركه في النفس العربية من جروح مصحوبة بالندم العميق- كان كافياً لتجنب تكرار المأساة- إلا أن الأطماع والرغبة في التسلط وغياب الحد الأدنى من الولاء للوطن الواحد القوي المتماسك الصامد في وجه العواصف قد أوصلت الأمة والوطن الكبير إلى ما هما عليه الآن من ضعف وهوان.
لقد نجح الاستعمار القديم في بداية القرن العشرين في تقسيم الوطن العربي إلى أقاليم قطرية في المشرق والمغرب، وفي الجزيرة العربية، والآن يحاول الاستعمار الجديد أن يفتت هذه الأقاليم القطرية إلى دويلات طائفية وعرقية ليتمكن من ابتزازها أكثر ومن ضمان الوجود الدائم للكيان الصهيوني الذي تمت صناعته في الأساس للحيلولة دون توحد العرب في دولة واحدة بوصفهم شعباً واحداً متجانس الأصول والأعراف واللغة والتاريخ والجغرافيا، والمثير للغرابة أن توجد داخل الشعب العربي فئات مارقة من أبنائه لا تتردد عن الترحيب بالمخطط التفتيتي الجديد بل تسعى إليه بجدية تامة وكأنه مشروعها الخاص وليس مشروع القوى المعادية للأمة والساعية إلى تمزيقها شذر مذر على مرأى من الأمة نفسها ومن العالم .
الخليج الإماراتية
د/عبد العزيز المقالح
لا بديل عن حب الوطن 1200