استثارتني خطواته المرتبكة الثقيلة ،، فاقتربت منه مستوضحا الأمر،،وقبل أن أصل ، بادرني بصوت متهدجٍ خافت:
"تقدر ترفع راسك لا فوق"؟
أجبت : نعم.
قال : "أنا ما أقدرش اسوّي زيّك" ..
الفتى سلمان الشرعبي، أحد ضحايا الرقيا الموسومة زيفاً بالشرعية وما أكثرهم!
تشيرُ الأورام التي التفّت حول عنقه وامتدت آثارها نحو محيّاه، إلى تعرضه لاعتداءٍ عبثيٍ كاد ينال من حياته كما ظلّ يكررها:
"كنت شاموت من جور ما زغططني" ، و "يزغط" في لغتنا العامية بمعنى يخنق... سألته :
"ليش يزغطك" يا سلمان؟!
لم يأبه لسؤالي ومضى صارخاً:
"أنا بخير وهم ذي بروسهم الجن"..
كان يعتقد - ربما- بأن في حالة ما يغني عن الرد والتوضيح، فمضى لشأنه بينما تسمّرت في مكاني أكابد غصص أوجاعه وتحتويني الكثير من الحسرات..
شاهدت في رقبته البريئة المثخنة بالخنق وطناً يلتف اللصوص حوله بالحرق ولا يبرحونه حتى يتساقط مضرجاً بخيباته وخساراته..!
حول رقبة سلمان التفّت أصابع القارئ لإخراج "الجنّي" المزعوم منه، وحول هذا الوطن التفّ ويلتفّ القتلة لإخراجه وهذا الشعب من دائرة الحياة.!
تتربع الآن على ذاكرتي الآن قصة "سيّد الصلولة" الذي اغتالني خبرها الفاجع وأنا ضمن صبية صغار كنّا نركض في تخوم القرية بحثاً عن المتعة وقد وجدناها وعايشناها كثيراً، كان الخبر يقول بأنّ هذا السيّد وهو يحاول إخراج "جنّياً" قيل بأنه تلبس فتاةً هناك؛ قد قتلها بعصاه المتوحشة التي أخطأت "الجنّي" وأتت على روح تلك الضحية المسكينة..!
أُصبتُ يومها بنوبة حزن شديدة امتزجت بالرعب والخوف.. كنت أخشى الجنّ.. نعم ، لكن أن يقترن ذكرهم هذه المرّة بواقعة القتل تلك، فالوقع لا شك أنكى وأشد.!
تركت اللعب جانباً وسارعت في الأوبة إلى ملاذي الآمن الحنون؛ والدتي، قذفت بخوفي ووجلي إليها وارتميت مرتبكاً، وتساؤلاتٍ لا تنتهي بين يديها إلّا لتبدأ من جديد..
كان حضنها الرؤوم لا يكلّ أو يملّ من منحي الكثير من الإجابات المهدهدة لروعي وقلقي..!
ماتت الفتاة وظلّ السيد حيّاً يرزق، وظلّت عصاه مسلطةً على الجنّ لكنها لا تصيب بأذاها سوى الإنس؛ والمساكين منهم فقط..
"سادةٌ" آخرون اليوم يملؤون المدينة، عصيّهم مشرعة للضرب، وأياديهم ممتدة للخنق، وبين الفينة والأخرى لا يفتأ الخبر الفاجعة من مداهمتنا:
أخفقت عصا السيد ويداه..
لم يخرج الجني من رأس المواطن...
خرجت روحه فحسب!
عظم الله أجر الجميع..!
غيلان العماري
عصا السيّد...! 1439