كثيرة هي المؤشرات التي تؤكد أن المزاج الصهيوني الذي كان في حالة غطرسة غير مسبوقة طوال الشهور الماضية، محمولا على وضع عربي استثنائي أثناء العدوان على قطاع غزة وما بعده، قد ذهب في اتجاه التراجع.
فهذا التراشق بين الأجهزة الأمنية والجيش -وإن جرت لملمة تداعياته- وهذا اللوم الموجه إلى النواب والوزراء الذين اقتحموا المسجد الأقصى، وتلك اللقاءات السرية بين ضباط فلسطينيين وإسرائيليين لترتيب التهدئة ومنع انفجار الوضع في الضفة الغربية، وصولا إلى إعلان نتنياهو عدم وجود نية لتغيير الوضع القائم في القدس، وتأكيد ذلك من قبل كيري بعد حضوره ونتنياهو إلى عمان، كل ذلك لم يكن مصادفة بحال من الأحوال.
من تابع المزاج الصهيوني العام خلال الشهور الأخيرة، بما في ذلك تصريحات نتنياهو المؤكدة على حق اليهود في المسجد الأقصى -دعك من تأكيداته المستمرة على استحالة المساومة على القدس كعاصمة للكيان الصهيوني- لا يمكن إلا أن يطرح هذا السؤال المتعلق بمزاج التراجع الذي ظهر خلال الأيام الماضية، وحتى قبل وصول كيري إلى تل أبيب، ومن ثم انتقاله ومعه نتنياهو إلى عمان، وحضور السيسي الاجتماع، وإن عبر اتصال هاتفي.
لقد كنا إزاء تسارع صهيوني محموم في اتجاه التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى، في محاولة لاستثمار وضع عربي بائس، وحيث يحصل نتنياهو على حالة استثنائية من التعاون العربي ما برح يشيد بها في كل لقاء وتصريح، لكن المشهد ما لبث أن ذهب في اتجاه مختلف كما عبر عن ذلك نتنياهو نفسه وكيري، فما الذي حدث؟
جواب ذلك يبدأ بالبسالة التي أبداها المقدسيون، ومعهم رجال الشيخ رائد صلاح، وعموم الجماهير في الأراضي المحتلة عام 48 ممن خصهم نتنياهو بتهديد ملؤه الغطرسة عبر القول إن بوسعهم أن يرحلوا إلى قطاع غزة أو مناطق السلطة، وصولا إلى تشديد العقوبات بحق راشقي الحجارة على جنود الاحتلال.
الأهم من ذلك يتمثل في تلك المبادرات الفردية التي أطلقها عدد من الشبان تباعا، إن كان عبر استخدام سياسة الدعس بالسيارات أم عبر السكاكين، والتي أسفرت عن عدد لا بأس به من القتلى والجرحى في صفوف قوات الاحتلال ومستوطنيه، وهي مبادرات تعبر عن روح الرفض في الشارع من جهة، في الوقت ذاته الذي تعبر فيه عن العجز عن إحداث ردود فعل مسلحة أكثر قوة بسبب تعاون السلطة الأمني من جهة، وبسبب الجهد الاستخباري الرهيب من قبل الاحتلال من جهة أخرى.
نفتح قوسا هنا لنشير إلى أن مساعي قوى المقاومة -وفي مقدمتها حماس والجهاد الإسلامي- من أجل القيام بعمليات ضد الاحتلال خلال السنوات الماضية لم تتوقف يوما، لكن جميع الخلايا التي جرى تشكيلها كانت تقع بيد التنسيق الأمني والجهود الاستخبارية المحمومة للاحتلال، ولم تنجح تلك المحاولات إلا في حالات محدودة في عمل شيء، ولعل ذلك هو ما أفضى إلى اجتراح فكرة المبادرات الفردية التي عبرت عنها عمليات الدعس بالسيارات أو السكاكين، والتي يمكن أن تتطور لاحقا نحو استخدام مسدسات في حال توفرها، أو أدوات أخرى بحسب ما تتيح الظروف.
خلاصة القول على صعيد التطورات الجديدة هي أن انتفاضة القدس العارمة، وبسالة المدافعين عن الأقصى، ومعها الحراك المبشر في الضفة الغربية رغم ما يواجهه من عنت بسبب التنسيق الأمني وقمع السلطة والاحتلال، كل ذلك أدى إلى تكريس مخاوف حقيقية من اندلاع انتفاضة شاملة في كل الأرض الفلسطينية، وهو وضع لا يخيف نتنياهو وحده، بل يخيف الأميركيين الذين فتحوا حربا ضد تنظيم الدولة ولا يريدون التخريب عليها.
كما يخيف الوضع العربي الذي يفتح هو الآخر حربا واسعة ليس مع تنظيم الدولة وحسب، بل ضد الربيع العربي بكل تجلياته، أو ما تبقى من تجلياته في بعض الدول بتعبير أدق -كما في اليمن وليبيا- فضلا عن المطاردة التي تتعرض لها حركة حماس في قطاع غزة، وحيث المخطط المعروف الذي يتبناه السيسي ومحمود عباس من أجل حصار الحركة ونزع سلاحها.
يدرك كل أولئك أن انتفاضة شاملة في كل الأرض الفلسطينية ستشكل منعطفا خطيرا في مشهد المنطقة المتفجر، وحين يذهب الشباب بكثافة نحو تنظيم الدولة في ظل الهجمة الأميركية الإيرانية فإن المشهد سيغدو أكثر تفجرا في حال اندلاع انتفاضة شاملة في الأراضي الفلسطينية برمتها، وسيغدو قطاع غزة بدوره في قلب الصراع من جديد، وستنفتح أبواب جهنم على المحتلين ومن يدعمونهم من كل الأصناف والألوان.
والخلاصة أن مشهد المنطقة برمته سيشهد حالة استثنائية تقلب الطاولة في وجه نتنياهو وداعميه، وفي وجه السلطة ومسارها العبثي، وفي وجه أنظمة الثورة المضادة (عربيا)، وربما تؤثر بشكل واضح في الحرب التي تشنها أميركا ضد تنظيم الدولة.
لذلك كله جاء كيري مسرعا إلى المنطقة لوقف التصعيد، وسجل نتنياهو تلك التراجعات الواضحة، وها هو يسمح يوم الجمعة (14/11) بدخول جميع الفلسطينيين من مختلف الأعمار المسجد الأقصى، ويحث على إبعاد المستوطنين عن الأقصى، فهل سيؤدي ذلك إلى وقف التصعيد؟
ربما يحدث ذلك، لكننا نأمل في شيء آخر، إذ نتمنى أن يمضي الشعب الفلسطيني في اتجاه تفجير انتفاضته الشاملة، لأنها المسار الوحيد الذي يوقف حالة التيه التي تعيشها القضية برمتها منذ عشر سنوات على يد ورثة عرفات، وربما يصحح مسيرة الوضع العربي برمته الذي أخذ يقترب من نتنياهو من أجل لجم خيار الشعوب في الحرية والتحرر.
ياسر الزعاترة
لماذا المطاردة المحمومة لشبح الانتفاضة؟ 1298