مثْل معظم أولئك الذين يتحدثون عن الشأن الأوكراني هذه الأيام، فأنا لست خبيراً في الشأن الأوكراني، إلا أنني أعرف ما أعرف عن ما كان يدور في مرحلة الحرب الباردة، لأميز على الفور مصطلحات الاستقطاب وأساليب شيطنة الشخصيات غير المرغوب فيها، وكل هذه ممارسات تؤدي عادة إلى مزيد من التصعيد وتأخذ الأمور نحو منحدر زلق وخطير.
إن الأمواج التي تعصف بأوكرانيا ما فتئت تحمل في طياتها عواقب استراتيجية بعيدة المدى، بغض النظر إن كان هناك حل دبلوماسي في الأفق أم لا.
وعلينا ألا ننسى هنا أن كثيراً مما يحدث في الشأن الأوكراني، ليس منوطاً بالأوكرانيين فقط، بل بعاصمتي القرار الكبريين موسكو وواشنطن، وهو ما سيكون موضوع الحلقة القادمة من برنامجي "إمباير" على الجزيرة الإنجليزية.
إن هاتين العاصمتين قد تجاذبتا الشأن الأوكراني طولاً وعرضاً باسم "الحرية والأمن" ولعمري فإن هاتين الكلمتين ما هما إلا غطاء لمطامع إمبراطورية وذرائع للتدخل المباشر.
لقد قام الرئيس الروسي فلاديمير بوتين منذ اندلاع الأزمة الأوكرانية بخطوات تصعيدية، وفي نفس الوقت صدرت عنه تصريحات توفيقية، وبين هذا وذاك الكثير من الارتجال، في محاولة لحماية مصالح روسيا في أكرانيا وامتصاص زخم التوسع الغربي باتجاه أوكرانيا وجمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق.
وبموازاة ذلك، عمل بوتين على إعادة تشكيل خارطة نفوذ موسكو، إلا أن أساليبه التي غلب عليها التسرع والتسلط تثير الكثير من التساؤلات والإدانات.
أما رد واشنطن، فغالباً سيرتكز إلى دوافعها وأهدافها الحقيقية التي تقف وراء انخراطها بزخم في الشأن الأوكراني، وكذلك يعتمد إن كان البيت الأبيض يعلم الطبخة التي كان الدبلوماسيون الأميركيون يعدونها في كييف وخاصة مساعدة وزير الخارجية للشؤون الأوروبية فيكتوريا نولاند والسفير الأميركي جيفري بيات.
بعبارة أخرى، ما الذي تناهى إلى علم الرئيس الأميركي باراك أوباما، ومتى؟
بوتين.. أوكرانيا خط أحمر
بعد هجر الكثير من دول أوروبا ودول جمهوريات الاتحاد السوفياتي لموسكو واختيارهم الغرب بديلاً عنها، حرص بوتين خلال العقد الماضي على الإيضاح للجميع أن جورجيا وأوكرانيا هما خطان أحمران.
وكما هو الحال في الخطوط المفروضة فرضاً، فإن الخط أحمر من جهة وأخضر من الجهة الأخرى. ويتجلى ذلك في سماح موسكو لنفسها بالتدخل، إلا أنها في نفس الوقت ترفض أن تتمتع واشنطن بنفس الامتياز.
وبالطبع، فهذا ليس بالشيء الغريب في طبيعة السياسة الدولية، ففي فلسطين عندما يكون الخط أخضر للجانب الإسرائيلي، فإنه يظهر باللون الأحمر للجانب الفلسطيني ولكننا نود أن نقول بأن ما أصبح عرفا في الجغرافيا السياسية، يجب ألا يتم الخلط بينه وبين ما ينص عليه القانون الدولي.
أوكرانيا، بلد تعداد سكانه 45 مليون نسمة، كان على الدوام حليفاً اقتصادياً واستراتيجياً لروسيا، وهو آخر حائط صد يعتمد عليه يفصل بين روسيا ومنطقة حلف شمال الأطلسي (ناتو).
لذلك فليس من المفاجئ أن تنهض روسيا -ولي أمر الأمس- وبعد عقدين من استقلال أوكرانيا للدفاع عن مصالحها القومية والاستراتيجية.
لقد أعطت اتفاقيات مرحلة ما بعد الحرب الباردة أوكرانيا الاستقلال وجردتها كذلك من أسلحتها النووية، كما تنص على أن لروسيا الحق بالاحتفاظ بـ25 ألف جندي في شبه جزيرة القرم، وهي الإقليم الذي يشهد أكبر مستوى من التوتر اليوم.
روسيا اليوم، يترأسها عميل سابق للكي جي بي (المخابرات السوفياتية)، فمن الأرجح والحال كذلك، أن تراقب وتنخرط عن كثب في شؤون جارتها الداخلية، ولقد بات الأوروبيون على قناعة بأن الغرب يجيء ويذهب لكن الروس وأجهزتهم المخابراتية يسكنون البيت الأوكراني.
ولكن رغم ذلك، فإن موسكو فشلت بشكل كبير في تحييد أو احتواء رغبة أوكرانيا وأوروبا في التقارب، ولم تفلح أيضاً سياسة العصا والجزرة التي اتبعها بوتين ومن ضمنها عرضه الذي قدمه لأوكرانيا في ديسمبر/كانون الأول الماضي والذي يتضمن مساعدات على شكل قروض بقيمة 15 مليار دولار، وإمدادات غاز طبيعي بأسعار تفضيلية.
بوتين -الذي بقي هادئا في مواجهة التدخل الغربي في الشأن الأوكراني- قام بفتح النار أخيرا وبشكل عنيف بعد عزل الرئيس الأوكراني السابق فيكتور يانوكوفيتش وتركه لأوكرانيا، ووصف ما جرى بأنه انقلاب عسكري.
"ياتس هو الشخص المناسب"
فيكتوريا نولاند هي المرأة التي احتلت صدر الصفحات الأولى للصحف بعبارتها "ليذهب الاتحاد الأوروبي للجحيم"، التي قالتها في محادثة هاتفية مع السفير الأميركي في كييف جيفري بيات.
وقد تسربت هذه المحادثة الهاتفية عن طريق المخابرات الروسية -التي يبدو أنها رصدت المكالمة- ونشرت على يوتيوب تحت عنوان روسي "دمى ميدان" في إشارة إلى ميدان الاستقلال في كييف الذي احتضن احتجاجات المعارضة الأوكرانية.
ورغم أن عبارات نولاند غير اللائقة قد أثارت اللغط من حولها، إلا أن عجرفتها التي ظهرت خلال عباراتها في تلك المحادثة تخبرنا الكثير وتنم عن خطر قادم.
كانت نولاند تتصرف كمفوض سام من عصور الاستعمار، فقد كانت توزع الأدوار في الحكومة الأوكرانية المستقبلية وتذكر بالأسماء من سيكون داخل اللعبة ومن الذي سيخرج منها.
قامت باستبعاد فيتالي كليتشكو (بطل الملاكمة الأوكراني الذي دخل معترك السياسة وكان من قادة ميدان التحرير)، وأثنت على آرسيني ياتسينيوك (سياسي ووزير سابق 2005-2006) وبالفعل أصبح هذا السياسي رئيسا للوزراء وهو الذي قام بالفعل بزيارة لواشنطن هذا الأسبوع لمناقشة مستقبل أوكرانيا.
كانت تقول اسميهما بشكل مختصر بدون تكلف "كليتش وياتس"، وأظهرت المكالمة عبارتها القائلة "ياتس هو الشخص المناسب".
بدا الأمر وكأنه تدخل سافر في شؤون بلد آخر وبشكل تقليدي على الطراز القديم، والحقيقة أنه كذلك بالفعل. إنه تصرف متسرع وله آثار عكسية.
فعندما يقوم دبلوماسيون أجانب لهم دور في الأزمة، بالالتحاق بالمتظاهرين وتوزيع البسكويت عليهم -كما فعلت نولاند وآخرون- فكأن لسان حالهم يقول: فلتذهب روسيا إلى الجحيم.
وبالنظر إلى سجل نولاند، فليس من المستغرب أن تشعر بالسعادة لإشعالها لأزمة قد تقود إلى قطيعة. ولكن -على أقل تقدير- فإن نولاند والخارجية الأميركية والمخابرات المركزية الأميركية كان يجب أن يدركوا أن روسيا لن تسكت. أم هل يا ترى كانوا يدركون ذلك؟
لنتأمل السيناريو التالي: الدخول في أزمة يمكن أن تؤدي إلى مواجهة عسكرية. كأنه "تكرار لمشهد سابق" خاصة مع قيام المحافظين الجدد بالعمل على تهيئة وتشكيل الذريعة التي يحتاجها أولئك الذين يدعمون تدخلا عسكريا واستعراض عضلات أميركي، وربما الحرب، مثل نولاند ومديرها السابق ديك تشيني.
تشيني كان من عرابي الحرب على العراق عام 2003، وسارع لإصدار حكمه بأن ضعف أوباما هو السبب وراء استقواء بوتين وأن الوضع بحاجة إلى تحرك عسكري وليس دبلوماسيا لردع الرئيس الروسي.
اقترح تشيني ما لا يقل عن ثلاث خطوات عسكرية: نشر منظومات صواريخ في بولندا، والتحضير لمناورات عسكرية للناتو بالقرب من الحدود الروسية، وتسليح وتدريب القوات المسلحة الأوكرانية.
إن هذا السيناريو هو الأقرب لتقدير الخبير الأميركي في الشؤون الروسية ستيفين كوهين الذي قيم الوضع بالقول بأنه "على بعد خطوتين من أزمة مشابهة لأزمة الصواريخ الكوبية (المعروفة بخليج الخنازير عام 1961) وعلى بعد ثلاث خطوات من حرب مع روسيا للمرة الأولى في التاريخ".
إنها امرأة كل العصور. عندما يتعلق الأمر بسياسة واشنطن، فإن نولاند كانت على الدوام جزءا من المطبخ السياسي من عهد الرئيس الأميركي السابق بيل كلنتون (1993-2001) وجورج بوش (2001-2009) وصولا إلى اليوم في عهد الرئيس الأميركي الحالي أوباما.
عملت مساعدة لنائب الرئيس السابق تشيني، وسفيرة في الناتو ومتحدثة باسم الخارجية الأميركية في عهد أوباما، واليوم هي مساعدة وزير الخارجية الأميركي للشؤون الأوروبية منذ عام 2013.
وهنا يجب أن لا نهمل توجهاتها الفكرية، فهي زوجة الشخصية المعروفة في المحافظين الجدد روبرت كيغان، وشقيق هذا الأخير هو فريدريك كيغان، وجه آخر من وجوه المحافظين الجدد وكذلك زوجته كيمبرلي. فريدريك وزوجته مؤرخان عسكريان يتبعان أسلوب مراكز الأبحاث الأميركية (Think Tank).
وكل هؤلاء ينتمون لمجموعة المحافظين الجدد في واشنطن، وهي مجموعة ما فتئت تؤثر في السياسة الخارجية الأميركية، وهم مثل معظم أعضاء هذا التيار لم يدخلوا الخدمة العسكرية قط رغم دعواتهم المستمرة لاستخدام السلاح.
"ليذهب الاتحاد الأوروبي إلى الجحيم" هي العبارة المرتجلة الجديدة التي تترجم عدائية دونالد رمسفيلد (وزير دفاع بوش) وتشيني والمحافظين الجدد لأوروبا التي دعاها رمسفيلد "القارة العجوز".
وفي كتابه "عن الجنة والسلطة" يبين روبرت كيغان الفروقات والاختلافات بين الولايات المتحدة وأوروبا بالقول: الأميركيون من كوكب المريخ والأوروبيون من كوكب الزهرة.
يرى كيغان أن أوروبا يجب أن تهمش لأنها لينة أكثر من اللازم، وتبالغ في دبلوماسيتها، وهي تهمة ينفيها الأوروبيون، خاصة إذا علمنا إن بولندا -الحليف المقرب لواشنطن- هي التي قادت دبلوماسية الاتحاد الأوروبي في كييف قبل وأثناء الأزمة الأوكرانية.
مثال آخر على الناشطين الذين يحملون توجهات المحافظين الجدد الفكرية، ويلعبون دورا مهما في أوكرانيا يمهد لحركة مناهضة لروسيا هو كارل غيرشام، رئيس مؤسسة الصندوق الوطني للديمقراطية. عمل غيرشام أيام الحرب الباردة رئيسا لإذاعة أوروبا الحرة المرتبطة بالمخابرات الأميركية.
والغريب في الأمر، أن غيرشام يجلس على سدة الرئاسة في مؤسسته منذ ثلاثين عاما وهي فترة تفوق فترة حكم معظم الحكام الدكتاتوريين الذين عرفهم العالم.
وإذا نظرنا إلى موقع مؤسسة غيرشام على الإنترنت، سوف نرى أن هناك حوالي سبعين برنامجا في عام 2012 مولتها المؤسسة في أوكرانيا.
ومنذ ترأسها غيرشام في منتصف ثمانينيات القرن الماضي، فيبدو أن هذه المؤسسة شبه الخاصة والممولة من الكونغرس الأميركي قد فعلت في العلن الكثير مما كانت المخابرات الأميركية تفعله في الخفاء.
إن ما تقدم لا يعني بالضرورة أن مجرد استلام بعض الأوكرانيين لأموال يعني أنهم مشتبه بهم، ليس هذا المقصود قطعا.
لدى الأوكرانيين أسباب مشروعة لينهضوا ضد الحكام الفاسدين ويناضلوا من أجل غد أفضل. إلا أنه من منظور بوتين فإن ما تفعله واشنطن هو ببساطة وبشكل مباشر، تدخل في الشأن الأوكراني.
وللتوضيح، أنا لا أحكم على المحافظين الجدد بأنهم على ضلال بناء على عقيدتهم التي تقوم على ترويج حقوق الإنسان والحرية والديمقراطية، أنا شخصيا، مدافع شرس عن هذه القيم في مجال العلاقات الدولية.
إن ما أطرحه للنقاش هو معاييرهم المزدوجة -فيما يخص فلسطين وإسرائيل مثلاً- وأساليبهم التواقة لاستخدام القوة العسكرية. المحافظون الجدد يرون أن معركة الحرية في العالم جزء جوهري من النفوذ الأميركي وقدر أميركا، لم تكن هناك حرب إلا وصفقوا لها.
لحسن الحظ فإن أوباما أحجم عن التصعيد العسكري مفضلاً بدل ذلك البقاء على الخط الدبلوماسي.
ولكن لسوء الحظ، لقد وقع الضرر بغض النظر عن ما إذا كان هناك حل في المستقبل القريب أم لا.
ولهذا السبب على كل من أوباما وبوتين أن يقولا بوضوح إنهما آسفان على تدخلهما السياسي في أوكرانيا، وأن يرفضا التدخل العسكري الأجنبي غير محسوب العواقب في شؤون الدول الأخرى.
وعليهما أن يتجنبا الحرب بأي ثمن. إنها خط أحمر لجميع الأطراف.
الجزيرة
مروان بشارة
إستراتيجيات متهورة في أوكرانيا 1142