وضعت النهاية الفاشلة لمفاوضات جنيف العلاقات الدولية على سكة تعاط جديدة، كما أعادت تأكيد حالة الانقسام الإقليمي، الأمر الذي ينذر بإمكانية تطور مشهد الصراع وامتداده على أفق زمني غير معلوم، وتطور أدواته وأساليبه واتخاذها طابعا أكثر عنفا مما سبق.
لقد كشفت هذه الواقعة حجم الخلل الحاصل في العلاقات الدولية، ذلك أن الاختلاف في المفاهيم والمبادئ وعلى الأولويات بين القوى الكبرى التي وقفت وراء أطراف مفاوضات جنيف، أظهر مساحة الاختلاف الشاسعة في العلاقات ومدى الانحراف الذي أسست له السنوات الثلاث الماضية في حقل العلاقات الدولية، وطبيعة الرهانات التي تم بناؤها على هامش الأزمة السورية، وهو هامش صار من غير الممكن تجسيره من غير حدوث متغير معين.
هذا يثبت أن ترتيبات جنيف لم تكن تهدف إلى الوصول لحل أزمة العالم في سوريا، كما لم تبذل الأطراف المشاركة جهوداً مهمة لإنجاز الحل، بل إن ذهابها لم يكن سوى خطوة في سياق الصراع الجاري حول سوريا.
فقد تكشف أن السياسة الخارجية لا تملك الرغبة أو الوسائل اللازمة لبناء الثقة وخلق توازن سلمي للمصالح، بل ثبت أنها مطبوعة بطابع انعدام الثقة المتبادل والعميق، وأنها في الغالب تعتمد على وسائل الدبلوماسية السرية وتورية الأهداف الحقيقية.
وعليه، أرادت الأطراف الدولية تحويل الجولات السويسرية إلى مختبر يساعدها على سبر التوجهات الدولية واختبار قوة رهاناتها ومعرفة المدى الذي وصلت إليه قدراتها التساومية علّ ذلك ينعكس في مرآة نتائج جنيف.
أرادت روسيا تحقيق انتصار دبلوماسي وعسكري على الغرب في سوريا من خلال سياسة الخديعة والتمسك الشكلي بقواعد القانون الدولي عبر جرّ الولايات المتحدة إلى مفاوضات لا نهاية لها بعد أن عملت على تعويم السقف الزمني للمفاوضات ورفضت ترتيب أولوياتها وتحديد مرجعياتها، في حين تعمل هي على مواصلة دعم النظام السوري بالسلاح والخطط وحمايته دولياً إلى أن يتسنى له القضاء على الثورة السورية، حينها تستطيع روسيا وضع العالم أمام مأزق جيوإستراتيجي خطير، وهو تشكيلها الهلال الروسي على شواطئ البحر المتوسط وفي المنطقة الممتدة من البحر الأسود إلى شواطئ لبنان.
وهذا ما يتيح لها هامشاً أوسع من الحركة والمناورة الاستراتيجية، تعطيها دفعاً وهيمنة في مفاوضاتها المعقدة مع العالم حول الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية، وكذا دورها ومكانتها الاقتصادية في العالم وخاصة علاقاتها مع أوروبا الغربية.
بموازاة ذلك، تضع روسيا خطة طريق كاملة لتوسيع هيمنتها الجيوإستراتيجية في المنطقة من خلال محاولة احتكارها عمليات التنقيب واستخراج النفط والغاز في منطقة المتوسط، وربطها بخطوط النقل الروسية والإيرانية، في مواجهة الإنتاج الخليجي، وتشكل سوريا واسطة العقد في هذا المخطط ومشروع ربط البحار الخمسة الذي كانت دمشق قد اقترحته بتنسيق مع روسيا وطهران في وقت سابق.
تستفيد السياسة الروسية من حالة الرخاوة الأميركية، حيث تجد أنها أمام فرصة لا تحمل مخاطر كبيرة عليها، لذا فهي تقارع سياسة أوباما التي ارتكزت على قاعدة حل الأزمة في سوريا دبلوماسياً وسياسياً بجملة من المناورات وتبني عليها طموحات كبيرة لوضعها في المجال الدولي وفي الشرق الأوسط خصوصاً رغم إدراك قيادة الكرملين عدم إمكانية العودة لأجواء الحرب الباردة حيث لا الإمكانيات الروسية تسمح بمثل هذا الخيار ولا الظروف الدولية الراهنة تتقبل مثل ذلك.
لم تختلف الوسائل الإيرانية عن نظيرتها الروسية من حيث التكتيك السياسي، حيث أظهرت أنها مع الحل في سوريا -رغم رفضها الصريح الالتزام بمبادئ جنيف- لكنها ظلت مصرة على ترسيخ مراكز نفوذها في المنطقة وإصرارها على دعم جهود بشار الأسد في القضاء على الثورة السورية، الذي باتت تعتبره الاستثمار الاستراتيجي الأخطر والأهم في المنطقة بعد أن كشفت تقارير دولية حجم الإنفاق الهائل الذي صرفته طهران في السنوات الأخيرة، والمقدر بمليارات الدولارات، فضلاً عن مشاركة مئات الكتائب العسكرية وشبه العسكرية في الحرب على الثورة السورية وبهدف إبقاء نظام بشار الأسد حاكماً على البلاد وتقوية أذرعها في المنطقة.
تقاتل إيران في سبيل استمرار مشروعها وهي تدرك أن انكفاءها عن سوريا سيمثل بداية لانكفائها عن كل المنطقة، خاصة بعد أن وصلت حالة الاستعداء ضدها مرحلة لا يمكن التعايش معها إلا ضمن شروط جديدة أهمها نزع الأنياب الإيرانية وتغيير سياستها التدخلية، وهو أمر لن يحصل بالتمني إنما سيمر بمغالبات طويلة ومعقدة ومكلفة.
كل ذلك دفع واشنطن إلى البحث عن خيارات بديلة، نتيجة إدراكها حقيقة المناورات الروسية الإيرانية، وبعد أن شعرت بوجود مخاطر حقيقية أفرزتها سياسة النأي بالنفس والانكفاء التي مارستها إدارة أوباما عبر تعديل سياساتها التدخلية وميلها إلى الابتعاد أو اتباع السلبية تجاه ساحات طالما كانت هي اللاعب الأبرز فيها، وخاصة على مدى العشرين سنة الأخيرة بعد انحسار الاتحاد السوفياتي المنافس السابق لها.
فقد قرأ الاستراتيجيون الأميركيون طبيعة المخاطر التي يتسبب بها العبث الروسي الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وحذر مسؤولون سابقون من عواقب هذه السياسة ليس على مصالح أميركا فحسب بل وعلى أمنها القومي في المستقبل القريب، وكانت النواة الصلبة للإدارة الأميركية -التي تتشكل من وزارات الدفاع والخارجية والخزانة- ظلت دائما خارج الرؤية "الأوبامية" للدور الأميركي، وظلت تعاند سياسة النأي التي يمارسها أوباما، وبالتالي شكلت قوة ضاغطة على إدارته وسياساته الشرق أوسطية عموما.
سوريا قضية أمن داخلي، هكذا رفعت واشنطن من سقف تقديرها للحالة السورية على لسان وزير أمنها الداخلي جيه جونسون، وقد تزامن هذا التقدير الجديد مع نهاية اجتماع أمني جمعه مع نظرائه في أوروبا الغربية، بل إن جونسون ذهب بعيداً حينما شدد على أن الشركاء الغربيين يرتبون لمختلف الاحتمالات وأنهم على توافق تام بهذا الخصوص.
دفعت جملة هذه الإدراكات إلى ظهور إمكانية لفحص خيارات بديلة للتعامل مع الحالة السورية ومفرزاتها وما تنطوي عليه من مخاطر مستقبلية تخص مصالح وأمن القوى الغربية، بدائل يبدو منها أنها تستشعر مخاطر ما وصلت إليه الأزمة، من ضمنها إمكانية تمدد القاعدة وصعوبة التعامل معها، وإمكانية ذهاب سوريا إلى التقسيم، عدا عن المخاطر الكامنة والمحتملة مثل إمكانية انتقال الأزمة إلى بلدان مجاورة تمثل حلفاء أساسيين وقواعد ارتكاز أميركية مهمة، من دونها تصبح إمكانية تنفيذ السياسة الأميركية في المنطقة أمراً غير ممكن.
على ضوء ذلك، يتبين أن الإدارة الأميركية باتت تقف على عتبة القناعة بضرورة تحريك بعض معطيات الوضع السوري -خاصة في جانبه الميداني- بهدف إجبار نظام الأسد وحلفائه على تغيير رهاناتهم ومواقفهم من المفاوضات.
وثمة مؤشرات عديدة في هذا المجال توضح نية واشنطن تشكيل سياق متكامل لإجراءات عملية، حيث تسعى الإدارة الأميركية إلى ضمان شبكة تنسيق إقليمية لتنفيذ أي خطوات عسكرية في سوريا، وتجهيز البنية اللازمة لإدراج هذه الإجراءات في السياق الميداني السوري: من تدريب الكوادر على خوض المعارك، إلى إنشاء غرف عمليات لإدارة الحرب، وصولاً إلى تعيين خطوط إمداد لوجستي في بعض مناطق الجنوب والشمال.
لا شك أن المرحلة القادمة ستشهد تطويراً للسياسات الدولية تجاه الحدث السوري، وخاصة لجهة ديناميات الصراع بعد أن كشفت جولات جنيف وجود عطب في الاستراتيجيات السابقة وضعف الأوراق المستخدمة في عملية المساومة، وهذا يعني تكثيف الصراع ودفعه باتجاه آماد لا يمكن تقدير مخاطرها ولا معرفة مآلاتها، ولا شك أن ذلك يضع سوريا والعلاقات الإقليمية والدولية أمام واقع مختلف، تزيد حالة الفوضى الدولية وعجز مؤسسات النظام الدولي من مخاطره وتعقيداته.
الجزيرة