أساس العلل والدولة الرخوة :
وصل بعض المفكرين العرب إلى استنتاج هام مفاده: أنّ الحامل السياسي أسقط، في صيغته النهضوية الجديدة، كل المشاريع الانقلابية الحزبية، التي اعتقد أصحابها أنهم يملكون الحقيقة، ووجد أن كل هذه الأحزاب لم تعد تملك حداً أدنى من الحقيقة, بطبيعة الحال لوحظ أن بعض هذه الأحزاب ظلت حتى الآن تراوغ وتؤكد أن التاريخ ما زال موجوداً كما هو، رغم أنها تلقى الضربات العسيرة، ولكنها بوعيها التاريخي الساذج المغلق، ما زالت تصارع كما كان (دون كيشوت) يقاتل الطواحين, المهم أن الحامل السياسي البديل الذي بدأ ذلك المفكر وضع يديه عليه هو: أنه يمكن أن تتعايش كل القوى السياسية اليسارية والقومية والليبرالية والإسلامية، شرط أن يستضلوا بمظلة الوطن، والوطن هنا بوصفه مفهوماً تاريخياً وسيسيولوجيا وسياسياً، والقبول بالتعددية والديمقراطية ومفهوم التداول السلمي للسلطة (المفكر المصري د. مراد وهبة).
وحقيقة الحال لدى البعض الآخر:
أن العلل الرئيسية في الواقع العربي الراهن وخاصة (اليمن السعيد بحكامه الفاسدين)، تتشكل من التخلف المجتمعي الذي يؤدي إلى تخلف العمل السياسي وتقليص القدرة الإنتاجية، إضافة إلى التخلف الذهني المؤدي، بدوره، إلى تخلف الفكر والثقافة والإبداع العلمي، ثم التخلف الأخلاقي المؤدي إلى توحش وتخلف المسلكيات في التعامل العام والقيم المدنية.
إن التخلف العقلي مرجعه ترسب وتكلس بنية ذهنية جامدة في العقل الجمعي للمجتمعات العربية ولدى عدد كبير من نخبها المثقفة، وهذه البنية هي نتاج تاريخي مرت عليه قرون طويلة من التجمد الثقافي والإرهاب الفكري سادت خلالها حرفية النص وعملية النقل (السلفيون والوهابيون) على حركية العقل المجتهد (المعتزلة والزيدية).
ويذهب آخرون إلى أن مقومات النهضة موجودة في الأمة بدليل أنها حققت نوعاً من النهضة في العصر العباسي قبل أن يحصل الهجوم التتاري و (عدن) قبل أن يجثم عليها قطعان البدو وتجتاحها جحافل القبائل و العسكر قبل إعلان الوحدة ثم بعدها، لكن المشكلة تكمن في أن رافعي شعارات النهضة يهملون التشخيص العلمي المطلوب للواقع المجتمعي، وهذا تكرر في التجارب الأيديولوجية السابقة التي رفعت شعارات ولم تراع في ذلك الواقع المجتمعي، وخصوصيات التي نقف عليها مجتمعياً، لأن هذه التضاريس تعود فتفرز نفسها مرة أخرى.
وفي كتابه (تكوين العرب السياسي) أشار المؤلف إلى أن (إسقاط الدولة) (ولو كانت رخوة بسبب هيمنة مراكز القوى عليها كما هو الحال في اليمن) مسألة خطيرة جداً، ذلك أن المؤسسات الضابطة للمجتمع إذا تم تجاوزها يحدث الانفلات وتحدث الحرب الأهلية، ومؤدى ذلك أن الدولة العربية القائمة التي تستحق الكثير من النقد في الوقت الحاضر، والتي لا يمكن الدفاع عنها ولا بد من الثورة عليها أو إصلاحها، حسب الأحوال، إلا أن وجودها ضروري، لجهة درء الفتنة والحيلولة دون نشوب الحرب الأهلية وعلى أساس أن يجري تطوير هذه (الدولة الرخوة) نفسها تدريجياً، نحو الإصلاح والعدالة والحرية.
العقل في مواجهة النقل :
في سياق متصل بالموضوع أعلاه، يرى عدد من المفكرين العرب أن العلمانية وتعني تغليب العقل والاجتهاد على النقل والتقليد، هي مفتاح الحضارة والتقدم، بينما جماعات التقليد من الأصولية (السلفية) الذين يطلقون على أنفسهم (أهل السنة والجماعة) تعوق النهضة, والأصولية أو السلفية ليست شعب الله المختار بل هي مجرد رؤية متخلفة في الدين وليست هي الدين بذاته، بدليل أن الحضارة الإسلامية تقدمت عندما كان هناك تفسير تقدمي للدين وانتكست عندما دخلت أفكار الظلام والتكفير، ارجع للتاريخ تجد أن الحضارة الإسلامية ترجمت الفلسفة اليونانية في القرن الثامن ثم جاء (الغزالي) في القرن الحادي عشر وقال هذا كفر ثم أقبل (ابن رشد) وطالب بقراءة الفلسفة اليونانية والبناء عليها ثم جاء (ابن تيمية) وكفَّر (ابن رشد) والفلاسفة جميعاً ونحن نعيش الآن، وخاصة في اليمن، على أفكار (ابن تيمية) وأتباعه من الوهابيين والسلفيين الإرهابيين، لذلك حدث التخلف والتراجع.
العلمانيـــة:
ينتقد عدد من المفكرين العرب الأفكار التي تعمل عليه تثبيت الواقع, هناك مصطلحات تعمل على ثبات الواقع مثل (ثوابت الأمة) و (الخطوط الحمراء) بما يعني عدم وجود تطور، وهذا شيء ضد العلمانية. العلمانية تعني التطور ومن يرفضها يرفض نظرية دوران الأرض، فالعلمانية بدأت من هذه اللحظة التي أعلن فيها (فيثاغورث) في القرن السادس قبل الميلاد عن دوران الأرض وقد حذره تلاميذه من نشر النظرية ولكنها أشيعت فأحرقت الجماهير الدار التي كان يجتمع فيها مع أتباعه، ومع ذلك انتصرت نظرية دوران الأرض التي استمر الداعية الإرهابي السعودي (بن باز) يرفضها حتى مماته.
جرائم التخلف والظاهر والباطن :
إن التحدي الأكبر في إحياء الفقه المعتزلي المتقدم (ابن رشد)، مثلاً، أنه سيصبح بديلاً للفكر السلفي المتخلف لـ (ابن تيمية) ومن لف لفه أو سار على دربه، فـ (ابن رشد) ضد مفهوم (الإجماع) لأنه قال بتأويل النص الديني والتأويل معناه أن الآية القرآنية لها معنى ظاهر ومعنى باطن، المعنى الظاهر للجماهير والباطن للنخبة (الراسخين في العلم) وكان الفيلسوف العقلاني (ابن رشد) يقول: لا تكفير لمن يخرج على الإجماع بينما الحضارة العربية تتبنى مفهوم الإجماع حتى الآن وحتى قرارات الجامعة العربية تستلزم الإجماع وهذه كارثة تقضي على إعمال العقل.
المحرَّمـــات :
يذهب معظم المثقفين المعاصرين إلى أن جراثيم التخلف هي المحرمات الثلاثة: الكهنوت الديني والسياسة والجنس. وتشكل هذه مجتمعة لب (الأصولية السلفية) والتي تحولت إلى فكر متوحش يهدد بحروب إيديولوجية مذهبية وطائفية تهدم كل مشاريع النهضة في العالم العربي واليمني على وجه الخصوص وتحرك قطعان الجماهير التي تعيش حالة من غياب الوعي نحو الهدم والقتل، والبديل هو تحرير العقل العربي من الخرافات والأساطير والتبعية التاريخية للسلف الصالح والطالح على السواء (هم رجال ونحن رجال)، وفي هذا المضمار لا بد أيضاً من التمييز بين الدين والتفسير الديني والاعتماد على المعرفة العلمية التي اتجهت نحو الوحدة على الرغم من تعدد مجالاتها، وهنا يرد إلى الذهن مصطلح (وحدة المعرفة) الذي نادى به بعض المثقفين.
*
أستاذ علوم القانون الجنائي - جامعة صنعاء
حسن علي مجلي
جراثيم التخلف 1357