فقه الإرهاب المعاصر يعتمد كلياً على حياة الانتحاري الفاقدة للمعنى.. حياه الانتحاري تكسبها الفتوى أسمى المعاني الدينية وهي (الشهادة) فتسهم فتوى الدم في تجفيف ضمير القاتل بتحريره من واجب احترام الحياة البشرية.. بهلوسة ساذجة اعتقد الانتحاري أنها الوسيلة الفضلى للوصول إلى (الشهادة), هذه الشهادة التي وجد فيها الانتحاري بغيته.. فقلما عرف في حياته الشهوة فتعده بحوريات تعود لهن بكارتهن بعد كل مضاجعة.. فتقدم له الفتوى شيكاً بدون رصيد بسبعين قصراً في الجنة!, وباختصار يسمي جريمته جهاداً وانتحاره شهادة بكل مزايا الجهاد والاستشهاد لأسرته في الحياة وله هو نفسه بعد الممات.
وهكذا يمكن القول أنه ما من جريمة حرب أو جريمة ضد الإنسانية أو جريمة متعلقة بتحريف أصول الدين, إلا ووراء اقترافها فتوى, وأي فتوى, إنها سلطة الفتاوى الدينية, إنها صك تزين للانتحاريين المسلمين ارتكاب جرائمهم، وكيف لا يقتل الانتحاري أي مسلم أو أي حاكم مسلم يقع في مرمى سلاحه عندما يقول له شيطان الفتوى (الأمراء المتحدث عنهم في النصوص هم أمراؤنا), أما الحكام المسلمون المعاصرون اليوم مع شعوبهم فإنهم مخالفون وبالتالي أصبحوا متمردين وخارجين على الشريعة, فهم أذناب الشيطان لذلك وجب تحكيم السيوف في رقابهم .. ولأن السيف لم يعد سلاح العصر, فالبديل هو الحزام الناسف والعبوة المتفجرة والسيارات المفخخة ووسيلة الاغتيالات أياً كان اسمها.. المهم أن الاستفادة من كل وسائل القتل الذي صنعها العدو متاحة في فصول فتوى الدم.. فمن المفارقة العجيبة أن الانتحاري يمنع التعامل مع الأجنبي, لكنه لا يرى مانعاً أن يقتل بأداة صنعها هذا الأجنبي ليبيد بها وطنه وشعبه..
وكم لزمن المفارقات والازدواجيات التي تتعامل بها فتاوى إهدار الدم.. من المهم جداً أن نعترف أن فتاوى القتل يقبع أصحابها في عمق المدن اليمنية، وأن بعضاً من أصواتها تصدر من مساجد حيوية قد لا تبتعد كثيراً من مقرات أجهزه أمنية واستخباراتية في العاصمة وفي غيرها, فالأمر لا يقتصر علي وجود فتاوى ومصادر وبواعث العمليات الانتحارية في القرى والأرياف والمناطق النائية, فحسب, بل تجد من بعض المسئولين شكايتهم من سماع أحدهم لخطبة تكفيرية أو تحريضية تعتبر تارك الصلاة كافراً وتحرم التعامل مع المبتدع علي أنه كافر حلال الدم دون أن نفهم من هو المبتدع, كما أنها تعتبر الاحتكام إلى الدساتير شركاً ووضع الدساتير من الثمار الخبيثة للعلمانية التي هي الجاهلية المعاصرة، والبرلمان ونوابه أوثاناً، وصور تشجيع الاستثمار والسياحة في الجزيرة العربية خيانة وخروجاً عن الملة.. ومع ذلك لم نسمع عن وجود محرك ومؤشر إيجابي نحو الاتجاه إلى إسكات هذه الدعاية المباشرة إلى تبني القتل، ألم تكن هذه المظاهر وغيرها مجالاً ومتسعاً للإرهابيين المهووسين بالقتل, متسللين من المساجد التي تتناول بعض منابرها برنامج الجهاد السلفي بدلاً من اسم الله، لتتجرد من وظيفتها الأصلية كأماكن للعبادة متحولة إلى وكر من أوكار الإرهاب؟.
إن النواة الصلبة في فقه الإرهاب المعاصر الانطوائي هو استغلاله للواقع المعاش الذي تعيشه الأمة الإسلامية في كل المجالات وتركيزه على خطاب العاطفة والحمية لدى الجمهور، مستفيداً من غياب الوعي وتفاقم المعاناة, ليصنع لنفسه دور المخلص والمنقذ الذي يمكن له أن يعيد للأمة عزها ومجدها, من منطلق إحياء الجهاد, لتنجرف خلفه حمية الشباب وحماسهم للجهاد دون أن يدركوا أن الزمان والمكان لا يسمحان بتاتاً بإحياء هذه الفريضة المرتبطة أصلاً بكل مقومات الأهلية والقدرة والاستطاعة في صف الحاكم والمحكوم على حد سواء... فأفضل وصفة لفتوى الإرهاب المعاصر هو الانتحار الجماعي للمسلمين على قاعدة ( جهادُ إلى قيام الساعة, أو الفناء المتبادل).
فحتى نقف على فقه الإرهاب المعاصر في أهم أهدافة, فإننا سنجد أن مفهوم (الولاء والبراء) الذي يتبناه الإرهاب يهدف إلى القضاء على كل من يراه هذا الفكر مخالفاً داخل المجتمع المسلم, أياً كانت جهة الانتماء لهذا المخالف: دينياً أو سياسياً أو إعلامياً؛ بذريعة أنه لا يمكن لهذا الفكر أن ينجح في تحقيق مبدأ الولاء والبراء لدولة الخلافة أو الإمارة إلا بالقضاء على المخالفين لهذا المفهوم، بناء على تصفية وإزالة العوائق من الداخل أولاً.. وهذا يعني أن فكر الإرهاب لا يمكن له أن ينمو أو يعيش مع أنماط فكرية أخرى, حتى وإن كانت تعلن الإسلام وتؤمن بالقران.. وهذا ما يتعارف عليه عند أرباب فتوى الإرهاب أنه (الهدف الأساسي)، أما الأهداف الأخرى فليست محل الاهتمام في منظور الفقه القاعدي مثل تحرير فلسطين, فهي (أهداف ثانوية) تبنتها القاعدة لا على حقيقتها والزحف نحوها، وإنما استغلالها بالشعارات والبيانات المنددة بما يحصل للمسلمين, معلنة الانتقام من الحكام والمتعاونين مع الأعداء- على حد تعبيرها- لتكون صوره الانتقام والثأر محصورة في الداخل.
ويبقى السؤال المر: إلى متى ستظل هذه الفتاوى التخريبية وبعض خطب الجمعة التحريضية تنخر في جسم الأمة قاضية عليها؟, وهل يمكن لهذه الفتاوى أن تمضي قدماً في تجنيد الانتحاريين لتنفيذ مخططاتها بضمير مطمئن؟, ثم كيف لها مواصلة المضي في توسيع أنشطتها واستقطاب أتباعها؟.
إننا اليوم أمام فئة ضالة بكل المقاييس قامت بعسكرة الفقه واختزلت عدد ( 6232 ) آية قرآنية معنية بترسيخ مفهوم الحياة التكاملية من مختلف الجوانب المعيشية, مختزلة هذا التكامل القرآني في عدد (448) آية هي آيات القصاص والسيف فقط.. والحال أن المصحف ليس مدونة جزائية ولا موسوعة للعلوم الحربية أو للفيزياء الفلكية أو للجغرافيا أو للتاريخ أو للطب, بل هو منهج رباني أبسط ما يقال عنه ( كتاب روحي.. تعبدي.. تعاملي.. تذكيري.. تنويري.. إلخ), يجعل من الإسلام ملائماً لاحتياجات الناس, مواكباً لمتطلبات الحداثة.
والخلاصة أن الإرهاب سيظل متغلغلاً ما دامت إجراءات العقوبة والردع غائبة, وسيظل قائماً عندما تتواصل عمليات غسل أدمغة الشباب بهذا الفقه الميت والمميت.. فما العمل لقلب هذا الاتجاه؟.. الإجابة: العمل ليس جارياً, فحتى الآن مازال الرهان علي أن تقرأ وتفهم النخب العربية والإسلامية مهامها المقروءة والمرئية على أرض الواقع, لأن هناك دلائل عدة تتضافر يوماً بعد يوم تشهد على عجزنا العميق عن حل أزماتنا المزمنة.. والله الموفق والهادي وحده إلى الصواب.
محمد السهماني
فقه الإرهاب المعاصر 1327