ما يحدث في سوريا من حرب أهلية طاحنة يبن النظام والمعارضة ودعم دولي وإقليمي لكلاهما راح ضحيتها عشرات الآلاف قتلى وجرحى وملايين المشردين وتدمير للبنى التحتية وانهيار تدريجي بطيء للدولة إنما يعبر عن أن سوريا تحولت إلى ساحة صراع إقليمية- دولية (ساحة حرب باردة) تتكرر اليوم في أرض عربية تحركها الدول الكبرى متمثلة في الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها من جهة, ومن جهة أخرى روسيا الاتحادية وحلفائها، والضحية الشعب السوري المغلوب على أمره، حيث من المعروف لنا أن معظم الحروب الباردة السابقة وقعت في بلدان غير عربية، كمثل تلك التي حدثت في فيتنام بين الشيوعيين (ثوار الفيتكونغ) المدعومين من الاتحاد السوفياتي السابق، والنظام المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية، وقد أدى هذا الصراع إلى تحول في السياسة الخارجية الأميركية من سياسة الاحتواء والدعم غير المباشر إلى سياسة التدخل العسكري المباشر في فيتنام.
وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي وتفككه يمكن القول اليوم إن روسيا الاتحادية ـ لاسيما بعد وصول بوتن إلى سدة الحكم ـ انتهجت ولا زالت تنتهج سياسة التمكين والبحث عن تحالفات واتفاقيات جديدة بعد انهيار هذا الاتحاد الذي كانت تتزعمه، وبعد اجتيازها المرحلة الصعبة التي مرت بها من خلال انتهاجها لهذه السياسة وتحالفاتها مع الصين وإيران وسوريا وتحسين علاقاتها مع الدول الأخرى، أدت كل هذه السياسات إلى تطور وتغير في سياستها الخارجية, حيث أنها حالياً تحاول خلق وإيجاد نوع من التوازن مع الولايات المتحدة من خلال استعادة النظام الدولي الذي كان سائداً (نظام دولي ثنائي القطبية) وهذا ما يظهر في سياستها الخارجية وتعاملها تجاه الأحداث في سوريا باعتبارها حليف استراتيجي ودائم لها.
أما الولايات المتحدة الأميركية في اعتقادي فتنتهج حالياً سياسة الاحتواء والدعم غير المباشر حيث أنها لا تمتلك استراتيجية واضحة للتدخل في الشأن السوري، ونستدل على ذلك عندما قام النظام السوري باستخدام الكيماوي في الغوطة الشرقية بالعاصمة دمشق، وضعت واشنطن خطة واستراتيجية عاجلة عبرت عن الارتباك والفشل في إدارة الأزمات الخارجية وقد تمثلت في إنزال العقاب على النظام جراء استخدام الكيماوي، وتحديد مدة الضربة العسكرية بـ 60 يوم قابلة للتمديد، وتمكين قوات المعارضة من استعادة المناطق التي فقدتها، وتحديد بعض المواقع العسكرية والأمنية التي سيتم ضربها لإضعاف الفعالية والأداء والقدرة على الاتصال والإمداد والتموين المتمثلة في تماسك وتلاحم جيش النظام السوري، وكذلك حظر جوي محدود، وإمكانية هيكلة وبناء جيش وطني من خلال إدماج المليشيات المسلحة المعتدلة التابعة للجيش الحر، حيث قامت الولايات المتحدة بحشد السفن الحربية وحاملات الطائرات في البحر المتوسط، وهذه التطورات في المواقف خلقت ردة فعل جعلت حلفاء سوريا مثل روسيا والصين وإيران يحذرون بشدة من التدخل العسكري في سوريا، ولذلك لجأت للضغط على النظام السوري للتخلص من أسلحة الكيماوية مقابل تفادي الضربة العسكرية، وهذا ما حدث.
وفي اعتقاد الكثير من الساسة واعتقادي أن موافقة الولايات المتحدة وبعض الدول الغربية بنزع السلاح الكيماوي السوري وتأجيل الضربة العسكرية إن لم نقل إلغاؤها يرجع إلى العديد من العوامل والأسباب منها تأمين إسرائيل الحليف الاستراتيجي والدائم، وتركيا العضو في حلف الناتو، وفشلها في تشكيل تحالف دولي يشاركها الضربة العسكرية وحصولها على موافقة من الأمم المتحدة عبر مجلس الأمن يخولها القيام بالتدخل العسكري، وكذلك لا تريد التورط في المستنقع السوري فهي لم تتخلص وتتعافى بعد من تكاليف التدخل في العراق وأفغانستان، وتخوفها من اتساع رقعة الحرب الدائرة في سوريا إلى الدول المجاورة والتي قد تؤدي إلى حرب إقليمية، وبالتالي قد تتطور إلى حرب عالمية, لاسيما أن معظم حلفاء النظام هددوا بأنهم لن يقفوا مكتوفي الأيدي في حال وجهت الضربة العسكرية ضد النظام.
كما أنها تدرك أيضاً أن سقوط الدولة بشكل كامل سيؤدي إلى فراغ أمني (اللا دولة) ومع وجود بعض التنظيمات المسلحة الخارجة عن إطار تنظيم الجيش الحر مثل جبهة النصرة وغيرها من التنظيمات المتشددة الأخرى المنتمية للقاعدة، قد يشكل هذا الفراغ مرتع وحضن خصب للتنظيمات الإرهابية، على غرار ما حدث في أفغانستان، كما أن الولايات المتحدة غير قادرة على صياغة وبلورة خطة واستراتيجية واضحة فيما يخص الشأن السوري، وذلك بسبب التعقيدات والعوامل التي ذكرت آنفاً في الشأن السوري.
ومن خلال هذه العوامل وغيرها من العوامل الأخرى نستطيع القول أنها أجبرت واشنطن والدول الغربية أن تنتهج الأدوات الدبلوماسية والاقتصادية وغيرها من الأدوات الأخرى في سياستها الخارجية تجاه الأحداث في سوريا من خلال الاحتواء والاعتماد على حلفائها مثل السعودية وقطر وتركيا بتصدير المقاتلين السنة إلى سوريا لقتال النظام ، وفي مقابلها كسياسة مضادة تنتهج روسيا وحلفائها بشكل مشابه لهذه السياسة تجاه الأحداث في سوريا من خلال اعتمادها على المقاتلين الشيعة، وهذه السياسات تذكرنا بأن الصراع الفكري بين الاشتراكية والليبرالية قد عاد للواجهة، ولكن بإضافة بعد وطابع صراعي آخر بصبغة دينية طائفية (سنية- شيعية) إلى هذا الصراع.
ويرى البعض أن الفكر لا يمكن مواجهته إلا بفكر، وحرب العصابات لا تواجه إلا بحر عصابات مضادة، إلا أن ذلك سيولد كراهية وحروب وقتال سيستمر لأجل غير مسمى لاسيما إذا استمرت الدول الكبرى متمسكة بسياساتها ولم توفر وتوجد حلول ترضي الأطراف المتقاتلة في سوريا هذا من جانب.. ومن جانب آخر إصرار طرفي الصراع في سوريا على الحسم، فالنظام يصر على الحسم الأمني والعسكري، والمعارضة تصر على الحسم الثوري، وعلى هذا المنوال لن تتوقف الحرب إذا لم توجد تنازلات كبيرة من الطرفين، وكمحلل سياسي أرى أن على السوريين ألا ينتظروا التدخل والحل العسكري من الخارج، وعلى النظام ألا يعتمد على الحل العسكري والدعم الخارجي، فالمعركة ستستمر ولن تتوقف ما دام الطرفان متمسكان بالإصرار على القتال والدعم الخارجي، وعليهما أن يدركا أن أي طرف لن يستطيع الفوز وكسب الحرب، وأن طاولة الحوار هي الحل الأنسب فلا يوجد حل آخر لصراع متكافئ ومتوازن في الداخل وعلى مستوى الخارج، إلا بالحوار وتقديم التنازلات.
وأما الخارج خصوصاً الدول الكبرى فعليهم إيجاد حلول ترضي الطرفين المتقاتلين وأن مصالحهم ستكون إذا أوقفوا الحرب.
والحل من وجهة نظري إيقاف الحرب، والجلوس على طاولة الحوار برعاية دولية مثل المؤتمر الذي سيعقد في الأيام القليلة القادمة (مؤتمر جنيف2) للخروج من الأزمة الراهنة على أن يتضمن هذا المؤتمر حلول تتمثل في خارطة طريق لفترة انتقالية من 2-4 سنوات لا تستثنى منها عائلة الأسد تتضمن تشكيل مجلس رئاسي وحكومة وفاق وطني، ويتم خلال هذه الفترة العمل على وأد الفتنة الطائفية، وإدماج المليشيات المسلحة المعتدلة وفصائل الجيش الحر في الجيش النظامي وهيكلته ليصبح جيش وطني محايد، وضمان الابتعاد عن الاغتيالات والمكايدات من قبل الطرفين، وتلي هذه المرحلة فترة أو مرحلة تأسيسية أخرى يتم فيها بناء الدولة وأعمار ما خربته الحرب.
والسؤال الذي يدور في عقولنا هل ستكون هناك صفقة تجاه الأحداث في سوريا؟!، على غرار صفقة البرنامج النووي الإيراني مع الغرب، والصفقة بين أميركا وروسيا بتراجع الأولى عن نشر الدرع الصاروخية في أوروبا الشرقية مقابل قيام الثانية بالضغط على إيران بالتخلي عن الحصول على السلاح النووي، وقيام روسيا وإيران بالضغط على النظام السوري للتخلص من أسلحته الكيماوية مقابل تفادي الضربة العسكرية.
خاطر مقبل الفيصلي
الحرب الباردة في سوريا وسياسة الاحتواء والتدخل 1540