ذهب موسى بأمر ربه إلى فرعون وملأه برسالة فحواها تحرير الإنسان وحفظ كرامته، ومنع إذلاله وتسخيره من قبل أي كان سواء فرداً أو جماعة, فكانت رسالته (أن أرسل معي بني إسرائيل ولا تعذبهم)..
أثبت موسى صدق نبوته في يوم مجموعٌ لها الناس, فخاض منازلة مع سحرة فرعون أظهرت الحق الذي جاء به، فانضم إليه واتبعه الكثير من الناس على تفاوت طبقاتهم وفئاتهم وأبرز الفئات التي أيدت موسى هي:
الفئة الأولى: أهل العلم
وأبرز أهل هذه الفئة هم السحرة، كانوا أهل علم ودراية، يستطيعون فهم الحدث وتقدير عواقبه.. لقد عرفوا الحق واتبعوا موسى بقناعة تامة وإيمان راسخ بسلامة منهجه ويقين كامل بنجاح دعوته، لقد عرفوا حقيقة المستقبل الذي ينتظرهم نتيجة سلوكهم هذا المسلك ولم تثنهم التهديدات أو تفت في عضدهم الشدائد، فقد تمسكوا بموسى وساروا معه حتى النهاية، وكان ردُّهم على تهديد فرعون لهم بالقتل والتنكيل مظهراً حقيقة إيمانهم ( قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَك َعَلَىٰ ماجَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا ۖ فَاقْض مَا أَنْتَ قَاضٍ ۖ إِنَّمَا تَقْضِيه هذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا).
الفئة الثانية: عامة الناس
اتبعت موسى أيضاً فئة أخرى وهم (عامة بني إسرائيل) الذين بعث موسى لإنقاذهم من الذل والعبودية, هؤلاء ما تبعوا موسى اقتناعاً بمنهجه وإنما طمع بمعجزاته وانبهار بقوته، كان الجهل وقلة المعرفة هو الداء الذي منع هؤلاء العامة من اكتشاف كنه الرسالة، واستشراف مستقبلها وفهم معانيها، فقد كان إدراكهم ضيِّقا لا يتعدى حدود المشاهدة وحركتهم لا تتجاوز إطار التقليد، يرجون السلامة بارتضاء المألوف ولو كان ذلك على حساب كرامتهم.
إن هؤلاء الناس ومن على شاكلتهم هم أكثر تأثيراً على طلاب الحرية من المستبد وجنوده، فإن تأخر عليهم مطمعٌ استبطئوه، وإن لمحوا في الأفق شدَّة استعجلوها، فقد كانوا بجهلهم وسطحية إيمانهم عامل تأزيم وإثارة داخل الصف الباحث عن الحرية، من خلال التشكيك بالنوايا أو التخذيل عن المواقف.. لقد أرعبهم بطش فرعون بأنصار موسى وتنكيله بهم ونسوا تلك القوة الخارقة التي تؤيد موسى, فتارة يندبون حظَّهم وتارة يلقون اللوم على موسى، يقيناً بعجزهم وهلاكهم، يذكرهم موسى بالله ويوصيهم بالصبر (قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين), فكان ردهم محبطاً ( قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِمَا جِئْتَنَا).
الجهل مصيبة على الإنسان في شدَّته ورخائه، فهو يمنعك من الحصول على أجر الصبر في الشدة، ويوقعك بإثم الإسراف والتبذير في الرخاء.. فها هم بنيو إسرائيل أيضاً بعد أن نجاهم الله من فرعون وملأه ومن العبودية والسخرة، وتملكوا أ رض فرعون وتمتعوا بأمواله وجميع كنوزه أغرتهم العيشة الفارهة ووسوس لهم الشيطان ليكشف سوأتهم ويظهر علتهم فلم يتخلصوا من إرث الثقافة السابقة التي ألزمتهم شعوراً بالذلة واستمراء العبودية, فما إن مروا على قوم يعبدون الأصنام إلا وكشفوا عن خسة طبعهم ولؤم أخلاقهم, فيتوقون للعبودية, ولكن هذه المرة عبودية الرخاء (قَالُواْ يَا مُوسَى اجعل لنا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ), فرد عليهم موسى بتوصيف مرضهم ( قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ).
الفئة الثالثة: الانتهازيون وأصحاب المصالح الشخصية الضيقة
من أمثال السامري وقارون، هذه الفئة تستغل الظروف وتسخِّرها لمصلحتها فتجدهم دائماً مع القوي طالما احتفظ بقوته، وهم أصحاب المال والنفوذ، وأفضل بيئة لتحقيق مصالحهم هي البيئة التي تنعدم فيها الحرية..
وهذه الفئة كانت تساند فرعون في بطشه وغطرسته فيسترزقون من عبودية الشعب ويتعيشون بتركيع الناس وإذلالهم, إن بالأزمات الاقتصادية أو بافتعال المشاكل الاجتماعية، وجل كسبهم عائدٌ من جعل انفسهم وسطاء بين المستعبَدين ومعبودهم، وهذا يتعارض مع عبودية الناس لله وحده، فالله لا يحتاج وسيطاً بينه وبين عباده.
اتبع أهل هذه الفئة موسى حين أيقنوا أن فرعون في طريقه إلى السقوط وليس استجابة لنداء الحرية، لذلك نجدهم أول من سيعمل على إحباط مسيرة الحرية الإنسانية التي جاء بها موسى حتى لا تتغلغل في نفوس العامة، ولا تصل إلى أعماقهم، فيسعون جهدهم لان تبقى الحرية بعيداً عن إدراك الناس وفهومهم ويستغلون الثغرات لتأجيج صراعات داخل الصف، وأهم ثغرة يستغلونها دائماً هي معرفة عواطف الناس وعاداتهم ومطالبهم والتي تتمحور حول الغذاء والبعد عن العناء، فما إن وجد هؤلاء المستغلون ضعف العامة وعدم استعدادهم لتحمل مسؤولية أنفسهم عندما طلبوا من موسى أن يصنع لهم إلهاً بادر هؤلاء وبذلوا الأموال فأنشأوا إلهاً من الجواهر والذهب ليغروا العامة ويبهروهم بهذه المظاهر المترفة, فأخرجوا لهم عجلاً جسداً له خوار، وما عملوا ذلك حباً في الناس, بل ليستعيدوا مكانتهم السابقة ودورهم المعهود، فكما جنوا أموالاً طائلة من تعبيد الناس لفرعون فإنهم يطمعون للكسب من تعبيد الناس لهذا العجل وإن اختلفت الآلهة، ولم يكتفوا بهذا, بل أخذوا يشككون في ولاء موسى لدعوته ولربه فقالوا: (هذا إلهكم وإله موسى فنسي), مدَّعين أنهم الأوفياء لتلك الرسالة التي جاء بها موسى وجعلوا من انفسهم أوصياء لتقرير مصير هذا الشعب الجاهل.
لقد وصف الله أهل هذه الفئة بالظالمين, فقال تعالى في وصف اتخاذهم للعجل (اتخذوه وكانوا ظالمين), فهل هناك ظلمٌ أكثر من البحث عن المصلحة الشخصية بتسخير وتركيع الناس وتعبيدهم لمخلوق آخر؟.
لقدت وعَّد الله أهل هذه الفئة وكل من يسلك مسلكهم من الأمم التي ستلحق بهم فيعيقوا منحة الله للناس بالحرية والانعتاق من العبودية والمذلَّة، ويعيدوا الناس إليها باستغلال جهلهم وحاجاتهم، ليركبوا موجة الدعاوى التحررية وتجييرها لما يخدم مصالحهم هم، هؤلاء سينالهم غضب من الله في الآخرة وستلازمهم الذلَّة في الدنيا قال الله عز وجل:( إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضبٌ من ربهم، وذلة في الحياة الدنيا، وكذلك نجزي المفترين), فلا يغرنَّهم إن تسيَّدوا الموقف في لحظاته الأولى فإن لله حكمة من ظهورهم وتربعهم على مواقع القيادة وذلك لينكشف أمرهم وينفضح جمعهم، حتى لا يعوقوا مسيرة التقدم وأعمال النماء المجتمعي والبناء الحضاري المستقبلية المنشودة والتي لن يقوم بها إلا المخلصين من دعاة الحرية والصادقين في حبهم وولائهم لربهم ولشعبهم.
مختار العطآئي
قراءة من واقع مسار الثورات 1201