حتى اللحظة، يبدو الحديث عن بقاء بشار الأسد في منصبه عامين آخرين بعد انتهاء ولايته في منتصف 2014، مجرد فكرة افتراضية، أو رؤى وتصورات تحليلية ليس لديها ما يسندها من الحيثيات الدبلوماسية والسياسية، إضافة إلى ضعف سندها الدستوري، فضلاً عن كون البيئة الأخلاقية تنافي هذا المنطق ولا تشجعه. ذلك أن المنطق السليم يستدعي وضع الأسد في قفص وترحيله فوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي وليس مكافأته على ما ارتكبه من جرائم بحق الإنسانية بإبقائه في منصبه القاتل فترة أطول. لكن، ولأن ذلك كذلك، صدرت "وشوشات" دولية يقال إن مصدرها الكبار، وهمس الكبار هو فرقعة بالونات يصل صداها إلى مديات بعيدة، فيما بدا وكأنه محاولة لسبر الأصداء وردود الفعل، وربما محاولة لإدراج هذا الخيار ضمن حزمة خيارات التفاوض الواسعة. هي إذن محاولة يمكن وصفها حتى اللحظة بعملية حجز للدور في سياق تسابقي وإعطاء هذا الخيار فرصة المرور عبر المخابر وفحص مدى قدرته على الصمود والحياة. ولإعطاء الأمر صبغة جدية، وفي محاولة تظهر على أنها نوع من الترجيح لهذا الخيار، تم تقديمه مع حزمة من الحيثيات والمعطيات التي تسنده وتعطيه مشروعية في الظروف الراهنة. ومن أبرز هذه المعطيات استكمال الأسد تفكيك الترسانة الكيميائية السورية والقضاء على الجماعات المتشددة، عدا عن أن الواقع السوري الحالي لناحية وجود ملايين اللاجئين خارج الحدود والنازحين في الداخل، وخروج مناطق عدة عن سيطرة النظام وعدم انتظام العمل الدبلوماسي في سفارات النظام، يجعل من إمكانية تنظيم الانتخابات الرئاسية مهمة صعبة، إن لم تكن مستحيلة. وحتى يبدو الأمر طبيعيا يجري تكييفه ضمن إطار قانوني عبر إسناده إلى نص دستوري الفقرة 2 من المادة 87 من الدستور السوري النافذ منذ العام الماضي والتي تنص على أنه "إذا انتهت ولاية رئيس الجمهورية ولم ينتخب رئيس جديد، يستمر رئيس الجمهورية القائم في ممارسة مهامه حتى انتخاب الرئيس الجديد". التقديرات الأولية حول هذه الشائعة تشير إلى صدور هذه التسريبات من موسكو، في محاولة لاستغلال التوافق الأميركي وابتزاز واشنطن، وخاصة وأن موسكو تلاقي ما يشجعها على ذلك في سياسة واشنطن وانشغالاتها العديدة. كما أن موسكو تبدو وكأنها استمرأت لعبة إيجاد المخارج للإدارة الأميركية المرتبكة، ووجدت واشنطن نفسها مستمتعة بهذه اللعبة، ثمة من يفك الخيوط المتشابكة حول عنقها. تدرك موسكو في هذه اللحظة الدولية مدى هشاشة سياسة الولايات المتحدة الخارجية وضعف المبادرة فيها، كما تدرك مدى انشداد تلك السياسة للتفاصيل الداخلية واستغراقها بها مما نتج عنه خلل واضح في الإستراتيجية الأميركية الكبرى لصالح سياسات إقليمية متناثرة يطلق عليها مشرعو السياسات الأميركية مصطلح الخطوات الصغيرة. وهي لا تعدو مجرد سياسات متناثرة على دوائر واسعة تمتد من المحيط الهادي إلى الأطلسي والمتوسط والبر الروسي، لكنها تفتقر للتماسك والمنهجية الأمر الذي يهدد بضياع فعالية السياسة الخارجية الأميركية وغياب الحضور الأميركي العالمي. تلعب موسكو في طرحها لخيار بقاء الأسد على هوس الأميركيين بخطر الجماعات المتشددة على هامش الثورة السورية، لذا مهدت وزارة الخارجية الروسية لهذا الخيار بالتأكيد على أن ميزان القوى داخل المعارضة المسلحة السورية "يتغير لمصلحة الإسلاميين". وأشارت إلى أن القوى الراديكالية بعد إظهار تفوقها في القتال، أعلنت عدم الاعتراف بالائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية، والابتعاد عن الجيش السوري الحر. ومن الواضح أن ثمة إشارة متعمدة في هذا الخطاب إلى غياب البديل الصالح عن نظام بشار الأسد، والتلميح بأن المعارضة العلمانية التي يريدها الغرب لا زالت ضعيفة وهامشية مما يجعل بقاء الأسد ضرورة مرحلية، ويصبح التفكير فيما عدا ذلك مغامرة غير مدروسة. الواقع العملي يقول إنه بعد اتفاق الكيميائي لا يتوجب استبعاد أي شيء، بل من السذاجة التعامل بحسن نية مع بعض السياسات التي يجري رسمها في المراكز الكبرى حول سوريا والمنطقة. فمن فضّل الخروج من الغنيمة بالسلاح الكيميائي دون الاهتمام بمصير السوريين لا يعنيه كثيراً التمسك ببعض التفاصيل الصغيرة مثل استمرار حكم بشار الأسد عامين أو أكثر، فمثل هذه الأمور ليس لها تأثير مهم على سياق التسويات الكبرى بل لأن لديها قابلية للتسويغ. ثم أن اتفاق الكيميائي ذاته فتح الباب لمثل هذا الاحتمال ولو لم ينص عليه صراحة إلا أنه تضمنه، القرار أعاد الرئيس السوري بشار الأسد محاورا أساسيا في المسألة المعقدة المتعلقة بالسلاح الكيميائي. وشكّك في إمكان تنفيذ قرار مجلس الأمن بسبب الوضع الأمني الخطر الذي سيعرقل تحرك المفتشين ثانيا. وبسبب إصرار روسيا على حماية الأسد حتى الرمق الأخير مما سيعطيه هامشاً لإعاقة عمل المفتشين ثالثاً، بسبب محدودية قدرات منظمة حظر الأسلحة الكيميائية خصوصا أن الحكومة السورية أعلنت أن لديها ألف طن من الغازات السامة. ولعل ما يعزز هذا التوجه، أن كل ما يحكى عن تهيئة الأجواء لبديل عن النظام الحالي غير واضح المعالم، حتى أن السفير روبرت فورد أبلغ رئيس الحكومة المؤقتة أحمد طعمة أن الإدارة الأميركية لن تعترف بالحكومة المؤقتة، لكنها ستتعامل معها بشكل كامل وبكل جدية. في حين ذهب وزير الخارجية الأميركية جون كيري إلى أبعد من ذلك بثنائه على أداء النظام السوري وعلى التزامه بتنفيذ اتفاق نزع الأسلحة الكيميائية. هل يعني هذا الثناء غير تزكية النظام للاستمرار بأداء أدوار مماثلة؟ لا تفسير لهذا الأمر سوى أنه يندرج في إطار التبدل الحاصل في الإستراتيجية الأميركية الجديدة تجاه الحدث السوري، ولا سيما بعد التطورات في الملف الكيميائي والملف النووي الإيراني. هذه الإستراتيجية تعتمد سياسة انتظار واختبار التطورات في هذين الملفين، كما تنتظر تطورات السياق الدبلوماسي المتمثل في مؤتمر جنيف٢. لذا يبدو من الطبيعي في هذه الحالة أن تعدل واشنطن كل إجراءاتها وسياساتها بانتظار نتائج هذه الاستحقاقات، ومعنى ذلك باختصار أن واشنطن بدأت بموازنة خياراتها بطريقة تناسب الاتفاق الأميركي الروسي الأخير". ما سبق يوضح بشكل جلي أننا أمام إستراتيجية روسية متكاملة في الملف السوري، على النقيض من السياسات الأميركية المبعثرة، فيبدو أن موسكو هي من يستخدم إستراتيجية الخطوات الصغيرة في هذا الملف، حيث بدأت بحماية الأسد من عقاب دولي كخطوة أولى، ثم تنطلق اليوم نحو إعطائه مزيداً من الوقت ليستعيد سلطاته، في محاوله لتثبيته بعد ذلك نهائيا في المعادلة السورية وطرحه كمعادل موضوعي مدني علماني وحام للأقليات في مواجهة قوى فوضوية متطرفة غير متسامحة. وفي الواقع تنطوي هذه السياسات على ثغرات وعيوب واضحة سياسية ودستورية، ذلك أن هذا النهج يتبع سياسة بناء سياقات نظرية وهمية غير مطابقة للحالة السورية. فهو فضلاً عن كونه نهجاً ينطوي على مبدأ تفخيخ مسارات الحل السياسي الذي من المفترض أن موسكو أحد رعاته، عبر إلغاء مداخل التفاوض السلمي للأزمة والتي تعتبر مصير الأسد واحدا من أهم تلك المداخل، فإنها أيضاً تنطوي على ثغرات قانونية ومؤسسية واضحة. فمن قال إنه يتوجب إجراء انتخابات رئاسية مباشرة في الحالة السورية، إلا إذا كان المقصود الإبقاء على آليات النظام نفسها، وهو أمر ما عاد ممكناً في الحالة السورية، ألا يحتاج الأمر إلى مرحلة انتقالية مثل كل الحالات الشبيهة بالحالة السورية، مصر وليبيا وتونس واليمن؟ ثم إن الأمر سيتطلب دستورا ومجلسا تشريعيا، والاتفاق على المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية ثم بعد ذلك يصار إلى انتخابات رئاسية. ثم هل ثمة ملمح في الوضع السوري الحالي لوجود نظام ومؤسسات يستلزم الدفاع عن وجودها بحجة ضمان استمرار الدولة الوطنية؟ ألم تشهد المؤسسات الوطنية انقساما وتشظياً ملحوظاً؟ كل المؤسسات صارت تعمل في إطار خدمة استمرار حالة استنزاف الدولة السورية، ومن قال إن تلك المؤسسات ستبقى تعمل بذات الصيغة والأسلوب السابقين، إذا كانت الصيغة السورية برمتها سيعاد التفاوض على بنائها من جديد، وبالتالي فإن حجة بقائها لا تستند إلى تبريرات وظيفية حقيقية، بقدر ما تقف وراءها دواع سياسية آنية. الواقع أن مجرد التفكير بطرح مثل هذه المسألة يعني إحالة سوريا إلى مجال غير ما تفكر به القوى الوطنية السورية، على اعتبار أن ترك المسألة وقتاً طويلاً محكومة بنتائج الميدان من شأنه أن يأخذ القضية برمتها إلى نواح أخرى وتركها تشكل سياقها الفوضوي الذي بدوره سيكون بيئة صالحة لتطوير هذه الخيارات وصولاً لخيار التقسيم، إذ من سيرفض حماية الأقليات وتجميعها في مساحة جغرافية محددة أمام خطر فوضى التطرف. إنهم يصنعون سياقات تدمير سوريا وتفتيتها، والعقلية المافياوية الروسية تقود الأعنة بهذا الاتجاه في لحظة دولية عاجزة. الجزيرة
غازي دحمان
هل يبقى الأسد حتى 2016؟ 1284