عقب وقوع الانقلاب العسكري الدموي الغادر في مصر يوم 3 من يوليو الماضي بأيام قلائل بدأت تصريحات الحكومات الغربية على استحياء، تتحدث عن الشأن المصري بشيء من القلق والترقب، انتظارًا لما يمكن أن يسفر عنه الموقف العام ومدى إمكانية حسم الأمور سريعًا لصالح الانقلاب من عدمه.
ومع تنامي ردود الفعل الشعبية الرافضة للانقلاب العسكري، وما ترتب عليه من عزل أول رئيس مدني منتخب وإلغاء الدستور وحل مجلس الشورى وغيرها من نتائج، بدأت الوفود الغربية (الأمريكية والأوروبية) تتوافد على مصر، في محاولة لاستطلاع الموقف على الطبيعة واستكشاف طرق الحل السياسي، عن طريق الجلوس مع الأطراف السياسية، إضافة إلى الانقلابيين من العسكر.
ولكن سرعان ما هدأت هذه المحاولات، بعد نشاط ملحوظ شبه يومي من خلال زيارات أو تصريحات أو لقاءات؛ حتى تكاد تكون توقفت الآن تمامًا، أو على الأقل المعلن منها، والسؤال المطروح هنا: لماذا توقفت أو هدأت ظاهريًّا على الأقل؟!
وقبل الإجابة يتبدى في الأذهان سؤال آخر: ماذا تريد أوروبا وأمريكا من مصر بشكل عام؟ والإجابة في تقديري أن الدول الأوروبية عمومًا، وأمريكا خصوصًا، تسعى من أجل الحفاظ على مصالحها، سواء أكانت مصالح سياسية أو اقتصادية أو أمنية أو ثقافية وغيرها، ومنها بالتأكيد حماية الكيان الصهيوني، ومن هنا فإن الاستقرار في مصر مطلوب، ولكن من الأفضل أن يكون ذلك من خلال الطبقة السياسية العلمانية وليس من خلال الإسلاميين الذين أتى بهم الربيع العربي.
ورغم أن الغرب كان يدرك تمامًا أن الإسلاميين في مصر خاصة، وفي العالم العربي عامة، لا يمكن تجاهلهم أو التقليل من دورهم أو إمكانية منعهم تمامًا من المشاركة السياسية، فإنهم يعتقدون أنه إذا نجح العلمانيون في السيطرة على السلطة بلباس مدني فهذا أفضل للغرب بالتأكيد، لكن ذلك بالطبع لن يحدث إلا بإلغاء أو تعطيل المسار الديمقراطي وقمع الإسلاميين الذين يمثلون قوة لا يستهان بها، وهذا ضد الفكر والثقافة الغربية الليبرالية، ولذلك كانت التصريحات الغربية تتحدث عن هذين الأمرين بطريقة أو بأخرى (العودة سريعًا إلى المسار الديمقراطي، وعدم استثناء أحد "أي الإسلاميين تحديدًا" من العملية السياسية).
ولكن يبدو أن زمرة الانقلابيين العسكر والنخبة العلمانية أوضحوا للغرب والأمريكان أن الضغط في هذين الأمرين تحديدًا سوف يعيد الموقف إلى نقطة الصفر وكأن شيئًا لم يكن؛ باعتبار أن الإسلاميين لا يزالون مؤثرين في الشارع السياسي، ويمكنهم أن يحوزوا أغلبية في أي انتخابات قادمة، والحل في هذه الحالة (كما يرى الانقلابيون) هو قمع هؤلاء الإسلاميين، وتقديمهم للمحاكمات وإدخالهم السجون والمعتقلات، ومنعهم تماما من ممارسة أي نشاط سياسي، وإعداد دستور علماني يمنع الإسلاميين من المشاركة في المستقبل.
وفي تقديري أن الغرب أبدى تحفظه على هذا المسار، ليس بالطبع من زاوية مصلحة الإسلاميين أو حبا في المسار الديمقراطي، ولكن لأن هذا الحل يؤدي إلى إحراج الغرب "الديمقراطي" نوعًا ما مع مجتمعاته، وأيضًا وهو الأهم لا يقضي على التيارات الإسلامية بشكل نهائي، بل قد يفتح الباب أمام تداعيات عنف وتطرف وهجرة لا يمكن توقع نتائجها في المدى المتوسط والبعيد.
وبالتالي أعتقد أن الموقف الغربي الآن يتلخص في أحد أمرين: الأول أنهم أدركوا أن الانقلاب العسكري يغرق الآن، سواء من الناحية السياسية بقمع معارضيه من الإسلاميين، وارتكاب هذه المجازر الدموية الوحشية بحق المعتصمين السلميين في رابعة العدوية وميدان النهضة وغيرها، وهي الدماء التي أججت مشاعر رفض الانقلاب والإصرار على عودة الشرعية من رجل الشارع العادي وليس فقط من التيارات الإسلامية وحدها، وهي مجازر لن تعفيه أوروبيًّا في حالة الفشل من المساءلة القانونية الدولية، إضافة إلى عدم نجاحه خارجيًّا في تسويق نفسه باعتباره ثورة شعبية ضد وضع غير ديمقراطي.
أيضًا الانقلاب يغرق من الناحية الاقتصادية التي باتت على وشك الانهيار بشكل كبير، رغم الحجم الكبير للمساعدات الخليجية (السعودية والكويت والإمارات) ورغم التكتم على صعوبة الظروف المعيشية للمواطن المصري حاليًّا.
أو من ناحية تنامي المظاهرات والمسيرات الداعمة للشرعية وعودة المسار الديمقراطي رغم كل العنف الذي تواجه به، ودخول قطاعات جديدة من المجتمع إلى هذه المسيرات الاحتجاجية، بعد أن اتضحت الصورة أمامها أكثر وتأثرت ظروفها المعيشية بتداعيات الانقلاب العسكري.
وفي هذه الحالة ربما رأى الغرب أن يترك الانقلاب يصارع الموت وحده، حتى إذا انهار وسقط قالوا لشعوبنا: نصحناهم وحذرناهم كثيرًا، ولكنهم رفضوا الاستماع إلينا فماذا نفعل؟!.
والثاني: أنهم حصلوا على تعهدات من الإنقلابيين فيما يخص العلاقة مع الكيان الصهيوني، وخصوصًا فيما يتعلق ببذل كل جهد للتخلص من حركة "حماس" عن طريق فرض حصار اقتصادي وغلق المعابر وتدمير الأنفاق، أو القيام بمغامرة عسكرية ضدها، إضافة إلى تعهد الإنقلابيين برعاية مصالح الغرب في مصر والمنطقة بصورة أكبر.
وأتصور أن الانقلابيين والنخبة العلمانية أكدوا للغرب أنهم مصرون على الاستمرار؛ لأن معنى سقوطهم بوضوح هو عودة المشروع الإسلامي بقوة أكبر، وبالتالي فلو نجحوا في الاستقرار وتثبيت أقدامهم فهذا أفضل للغرب، ولو فشلوا فالجميع (الغرب والعسكر والنخبة العلمانية) سوف يتحملون نتائج مؤلمة.
وفي هذه الحالة من الأفضل أن يبقى داعمًا للانقلابيين في الخفاء أكثر منه في العلن، وبالتالي ليس هناك جدوى من إرسال وفود سياسية (من وجهة نظر الإنقلابيين)؛ لأن الأمر عمليًّا تجاوز هذه المرحلة، وربما هذا يفسر كذلك سكوت الغرب الآن ومنظماته الدولية والأمم المتحدة بالذات، عما تتعرض له الحريات في مصر من انتهاكات، وما يواجهه الإسلاميون حاليًّا من عمليات قمع واعتقال دون الالتزام بالقانون، وإهدار أبسط مبادئ حقوق الإنسان في التعامل معهم.
أعتقد أن تنامي الضغط الشعبي للدفاع عن عودة الشرعية وكسر الانقلاب واستمرار الحشود اليومية في الشوارع، والنجاح في إدخال فئات جديدة لدعم التظاهرات، وبدء عصيان مدني مؤثر، سوف يؤدي إلى تبني الغرب للمسار الأول.
بدر محمد بدر
قراءة في موقف الغرب من الانقلاب العسكري في مصر 1735