شهد التاريخ الإسلامي نماذج رائعة لعلماء الدين الذين وقفوا في وجوه الطواغيت دون أن يضعفوا أو يخافوا أو يطمعوا في متاع الدنيا الفاني، وقال بعضهم كلمة الحق مع أنه كان يعلم أن حياته ستكون ثمنًا لهذه الكلمة.
كان سعيد بن جبير في مواجهة الحجاج أبرز النماذج في التاريخ القديم، وسيد قطب في مواجهة جمال عبد الناصر في التاريخ المعاصر. وعلى امتداد التاريخ الإسلامي كان هناك من تصدوا للحكام الظالمين وتحملوا السجن والنفي والغربة والتشهير ومن هؤلاء الأئمة أبو حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل، ومنهم العز بن عبد السلام وابن تيمية.. أما علماء السلطة وفقهاء الشرطة فكانوا كثيرين بلا حصر لأنهم كانوا أضعف من المواجهة أو إن طبيعتهم تدفعهم الى النفاق والتزلف وانتظار المنفعة!
ابتليت مصر والبلاد العربية في القرن العشرين بالعديد من النماذج الأخيرة التي طوعت الدين للسلطان، ودلست على الناس كي يقبلوا ما يعد حرامًا سياسيًّا وطغيانًا سافرًا. ولم يكن سلوكهم الشخصي أو تطبيقهم العملي للإسلام فوق مستوى الشبهات، مما مكن الأجهزة الأمنية أن تحتفظ بما يدينهم ويفضحهم أمام الناس عند استخدامه وقت اللزوم، وقد رأينا كيف استطاع جهاز أمن الدولة الإرهابي أن يستخدم بعض ما لديه ليوقف ادعاءات بعضهم بالثورية عقب سقوط نظام مبارك الفاسد، فأغلقوا أفواههم ولزموا بيوتهم، ولم يعودوا إلى الأضواء إلا بعد الانقلاب العسكري الدموي الفاشي، حيث راحوا يتقربون إلى الانقلابين ويتوددون إليهم ويتطوعون بالثناء عليهم وهم يعلمون أنهم لا يحسنون صنعًا.
عندما تسيل دماء المصريين أنهارًا بالغدر والخسة والعدوان السافر على يد الانقلابين وبلطجيتهم، وتتجاوز الأعداد المئات بل الألوف، والجرحى إلى عشرة آلاف، يصمت فقهاء البيادة ولا ينطقون، وعندما ينطلق الناس في الشوارع للتعبير عن غضبهم سلميًّا لما حدث، نجد هؤلاء يصفون المتظاهرين بالإرهابيين، ويدعون أنهم يثيرون الذعر بين المواطنين ويروعون أمنهم, ولا يكتفون بذلك بل يطالبون سلطات الانقلاب بالتعامل معهم بكل قوة لتحقيق ما يسمى أمن المواطنين جميعًا وسلامتهم.
ولا يكتفون بذلك بل يخرجون في بيانات مشتركة مع الكنيسة التي يعادي رئيسها الإسلام علنًا، ويسعى بكل قوة لشطب كل ما يتعلق بالإسلام من الدستور، ليدينوا الأحرار الشرفاء ويتهموهم بالخروج عن الملة!
وما بالك بمن يرى المدافعين عن إسلامية الدولة من المارقين ويدعوهم إلى الجنوح للسلم وهم يذبحون (؟!) على يد الانقلابين الدمويين، ثم الجلوس على مائدة الحوار التي يرفضها القتلة العسكريون والأمنيون رفضًا كاملاً؟ بدلاً من أن يقولوا للسفاح كف وتوقف عن القتل والذبح يطلبون من الضحية الصمت والاستسلام. إنهم يتجاهلون إحراق المساجد واقتحامها وقصفها بالطائرات والرصاص ولا يستنكرون هذه الجرائم التي لم يحدث شبيهًا لها إلا في عهد المحتل نابليون.
والأدهى من ذلك كله أن تجد بعض فقهاء البيادة يتجاهلون الانقلاب على الدستور والشرعية ليحكموا على جماعة إسلامية بالكفر والردة والخروج عن الملة، ولا يكتفي عابد البيادة بذلك بل يطالب بأخذ أموالهم وأشياعهم، مستندًا إلى حديث: "من حمل علينا السلاح فليس منا"، وهل رأى المأفون أحدًا من هذه الجماعة أو غيرها حمل السلاح؟ إن الذين حملوا السلاح كانوا من الانقلابين القتلة وأتباعهم من البلطجية وأشباههم، ولكن المأفون لا يستطيع أن يشير إلى هؤلاء القتلة المجرمين لأنه يطمع في كرمهم وعطاياهم.
ويتطوع بائس من فقهاء البيادة يحب الأضواء وأشياء أخرى ليرى أن دين الإسلام لا علاقةَ له بالأحداث السياسية التي تشهدها مصر(؟!). ويقول بجهل أو عن علم يتجاهله في لقاء مع إحدى قنوات اللصوص الكبار المعادية للإسلام: إن ما يحدث (يقصد مظاهرات الشعب المصري من أجل دينه وحريته وإرادته ) هو عنف وإرهاب تجاه الدولة، وسلوك متشددين، وخوراج، لا علاقة له بالإسلام. ويضيف البائس: يعتقدون أنهم أصحاب المشروع الإسلامي لكن الحقيقة أن هذا المشروع مع الأزهر وليس الخوارج الذين يفسدون في الأرض". مطالبا جميع المصريين بالوقوف ضد الفتنة التي يعاني منها الشعب!
فقيه البيادة هذا يعلم أن الانقلابين القتلة جعلوا في مقدمة أهدافهم إزاحة الإسلام من حياة المصريين وواقعهم، وأن هدفهم في هذا السياق توافق مع هدف رئيس الكنيسة عدو الإسلام الأول في مصر، ويعلم فقيه البيادة أن المصريين حين خرجوا إلى الشارع يرفضون القتل والانقلاب، كانوا يدافعون عن الإسلام والمسلمين، ويعرف فقيه البيادة أن من يدافعون عن الإسلام أصحاب مشروع إسلامي وليس مشروعا صهيونيا، وهم يحملون حلماً إسلامياً كاد أن يتحقق لولا التآمر الذي يخدمه الفقيه المنافق بنفاقه الآثم . إنهم ليسوا خوارج ولكنهم أحرار يرفضون الطغيان والإجرام والفرعنة، ولكن فقيه البيادة لا يعرف هذه القيم ولا يهضمها لأنها لا تجعل له مكانا حقيقيا وسط دولة الإسلام الحر !
أحدهم طلب أن يقبل رأس ضابط وخزه ضميره لأنه قتل ثمانين شخصا بناء على فتواه المنحرفة بأن الثوار الإسلاميين خوارج، أي إنه يطالبه بمزيد من القتل!
فقهاء البيادة حريصون على إدانة المدافعين عن الإسلام والحرية وهم الطرف المظلوم المعتدى عليه ويشيّع ضحاياه في كل مكان على أرض الوطن، ثم – يا للعار - يصرّون أنه هو الذي يحمل السلاح ويزهق الأرواح ويحرق المنازل ومؤسسات الدولة ويعتدي على دور العبادة ..!
والأدهى من فقهاء البيادة ما يفعله نفر ينتمون إلى الحركة الإسلامية ويظنون أن موقفهم إلى جوار الانقلابين سيعصمهم من الماء، ولكنهم خائبون فاشلون، فهم لا يمثلون إلا دور المحلل أو زوج تحت الطلب كما تقدمه الأفلام المصرية، وللأسف ليتهم يأخذون موقفا صريحا ينصر العقيدة والشريعة أو يصمتون، ولكنهم يتزلفون إلى الانقلاب الدموي الفاشي بالحديث عن حرمة تكفير الجيش ورجال الشرطة، ويزعمون أن أنصار الرئيس الشرعي محمد مرسي يهاجمون الجيش والشرطة بمبررات لو صحتْ لانطبقت عليهم في عهد "مرسيّ"!
بدلا من إدانة ما يقوم به السفاحون القتلة يخترعون حكاية التكفير التي لم أسمع بها، وهم الذين كان لهم في هذا المضمار باع طويل، وهو أمر يجعل الحليم حيران !
من الصعب أن نطلب من فقهاء البيادة في هذه المرحلة الحرجة أن يكونوا على مستوى الضمير والمسئولية وقبل ذلك الخوف من الله.
ترى هل يمكن أن نقارن مواقف فقهاء البيادة بموقف بابا الفاتيكان الذي وصف المجازر التي جرت في مصر بأنها جرائم ضد الإنسانية؟ البابا أكثر منهم شجاعةً وأشد يقظة وأفضل إنسانية.
إننا نقول لهم إن التاريخ يسجل بحروفٍ من نور من ينحازون إلى الله والعقيدة والشريعة والمسلمين. وتبت يدا أبي لهب وتب!
د. حلمي محمد القاعود
فقهاء البيادة! 1467