كل فكرة أو مشروع لا يستقيم ولا يتحقق إلا إذا توفرت الظروف المناسبة لتحقيقه، وبدون إدراك هدف الفكرة أو المشروع، لا يمكن إدراك ماهية وكيفية تشكل الظروف الموضوعية السابقة لتلك الفكرة أو ذاك المشروع، فمن الأهمية بمكان العودة نحو الماضي بقدر الإسراع المتهور نحو المستقبل، بغرض الحصول على المعرفة الحقة من خلال مطالبة السياق التاريخي ولو جبراً للإفصاح حول مبررات كل التشكلات الاجتماعية، الاقتصادية، الثقافية، والسياسية، ومن ناحية أخرى استقراء مبررات الفشل والعجز في المراحل السابقة رغم الجوهر المطلبي المحرك لعظمة التضحيات الوطنية، وصولاً إلى ما نحن عليه اليوم.
فيا ترى هل اللحظة الراهنة وان توفرت لها كل الممكنات الكافية لإحداث تحول حقيقي في حياة المجتمع اليمني، كافية لتحقق كافة المطالب الشعبية (الحرية، الكرامة، السلام والأمن الاجتماعي، حقوق الإنسان...الخ)، والتي لم تختلف عما سبق رغم حركة الزمن وتشكلات المكان.
لقد بات الحديث عن المفاهيم المطلبية للشعوب، أمراً مألوفاً وبمنهجية أكثر فأكثر رتابة وتكرار، لا سيما أنه لا فرق بين كل مطالب ومبررات التضحيات النضالية قديماً وحديثاً على المستوى العربي واليمني على وجه التحديد، رفض نظام الحكم الاستبدادي، الحرية، الكرامة، العدالة، مكافحة الفساد، الجهل، الفقر،......الخ. أليست هي نفس دوافع النضال والتضحيات والمطالب للشعوب في ستينات القرن الماضي وبين المرحلة النضالية التي تجلت باندلاع الحراك 2007م، وتجسدت بثورة 11 فبراير السلمية؟؟. أليس الاستبداد هو الاستبداد، والفقر هو الفقر، والجهل هو الجهل، والمرض هو المرض والظلم هو الظلم...الخ؟؟.
ألا يستحق الأمر للمراجعة النقدية المتجردة بذهنية وطنية بعيداً عن الانتقائية بذهنية الأيديولوجيات المذهبية، والحزبية، وبعيداً عن الانتقائية بذهنية العصبية القبلية والمناطقية، من باب الفهم والمقاربة بين أهداف الثورات السابقة، وبين ما تحقق فعلاً، كما أن الأمر يستحق ادراك واستيعاب اللحظة وظروفها ومتطلباتها ومقاربة حركة السير ومصداقيتها نحو المستقبل ومدى تحقق هذه المطالب الشعبية.
لذا علينا جميعاً أن نجهد أنفسنا لفحص الأسباب التي تقف وراء سوء الظروف الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، والثقافية، وكل تداعيات الصراع والتمزق والضعف وتفكك العلاقات الاجتماعية، وبنفس الوقت التعرف على الأسباب التي تجعل سيطرة النظم الفاسدة وبمختلف أشكالها أمراً متكرراً.
إن اللحظة الراهنة كشفت النقاب عن كل العبثية الممنهجة وكل المساوئ الفاسدة، والتي تجعلنا أكثر تحمساً وإدراكاً بعمق متطلباتنا وآليات تحقيقها، اللحظة الراهنة تجعلنا نتحسس أزماتنا ومشاكلنا الفردية والجمعية، نتمكن من التفريق بين الغث والسمين بين الحق والباطل. إلا أن الدوغمائية المسيطرة على غالبية المجتمع والتي تقف عائقاً أمام أحداث اختراق استراتيجي يفتح دروب فكرية جديدة قادرة على التعامل بإخلاص مع مجمل الإشكالية اليمنية، فما زالت أشباح الخلافات العقائدية الدينية، السياسية، العسكرية، والقبلية التي مزقت كيان الأمة اليمنية، تنسحب بثقة نحو مستقبل قد لا يكون أمناً. اللحظة الراهنة تفتقر للمصداقية، وتفتقر أيضاً لإرادة جمعية وطنية، بقدر ما تحظى وبشكل مكثف بخطابات وممارسات وهمية منقطعة تماماً عن الواقع، تعزلنا جميعاً عن جوهر مشاكلنا، وتعزلنا أيضاً عن عملية اختيار المفردات والمفاهيم الأكثر صلة بمجمل إشكاليتنا اليمنية بحيث يتم التفكير في وضع الحلول بشكل مغاير يفتح الطريق أمام إعادة بناء حتمي للأمة وبناء الدولة في اطار جمعي للأخلاقيات والتي أصبحت مفقودة اليوم، ولقد آن الأوان للتخلص من الجمود العقائدي المتناقض، والأيديولوجيات المختلفة التي ثبت فشلها وعجزت عن تحسين حياة البشرية.
من خلال هذه الخلفية المتواضعة بقدر تواضع الخلفية الإدراكية التي امتلكها، إنما أسعى إلى إدراك وسبر العوامل الاجتماعية، الاقتصادية، السياسية، والثقافية التي خولت ومنحت كل النظم الفاسدة تلك القوة والاستمرارية وبتمظهراتها المختلفة، لا سيما وانها تنسحب إلى حياتنا ومستقبلنا بشكل متكرر، وفي الوقت الذي ما زلنا نعيش حالة من التداعي ألا واعي يؤكد أن تفكيرنا لا يزال إلى حد بعيد، أسيراً لتداعيات فرعية متناقضة متوافقة ومتعددة عززت حالة الانتقائية والتي أصبحت مؤشراً واضحاً للاستقراء والفحص، تمثلت بأشكال وفي مراحل مختلفة : انتقائية في المسار الثوري، انتقائية لمنهجية التغيير، انتقائية للشعارات، انتقائية في تشخيص المشكلات وأسبابها، انتقائية في اختيار الحلول، انتقائية في الشركاء،...الخ. ولن يكون المستقبل بعيداً عن هذه الانتقائية التي تكرس الحفاظ على القوى ومراكز النفوذ.
فهل من العبث إذاً محاولة التفكير بعمق في إمكانية أن نضع قيد العمل آليات من شأنها وقف كل الممارسات التي تجسد الفساد بكافة أشكاله، وعدم السماح بإعادة تنظيم عملية التكرار لنظم الفساد والاستبداد؟؟ وهل من العبث التفكير في الكيفية المناسبة التي تسمح بوضع الأسس لبناء فضاءات اجتماعية، اقتصادية، سياسية، وثقافية تضمن لكافة أبناء المجتمع السلام والأمن الاجتماعي ومزيداً من التماسك والاستقرار.
إني لأرى أن القيام بذلك أمراً ملحاً، وإن وقفت كل القوى ومراكز النفوذ عائقاً أمام ذلك، وإن نظرت أيضاً تلك الجموع المذعنة استسلاماً أنه لا جدوى منه.
منير العشملي
المستقبل وانتقائية الاستبداد 1234