في هذه الأيام تعلو الأصوات، وتلهج الألسنة بالتلبية، تعلن التوحيد، وتقر بالعبودية، وتعترف بفقر المخلوق وحاجته لغنى الخالق.
قدمنا طاعة، وخوفاً، وأملاً، ورجاءً، وخضوعاً، وذلاً وانكساراً، نجيب دعوتك، ونترك لأجلك أهلنا وديارنا، وأعمالنا، ونفارق أحبتنا، ونهجر فرشنا، يحدونا الشوق إلى البيت العتيق، فترتفع أصواتنا تجيب مناديك:(لبيك اللهم لبيك)..
تصديقاً لخبر نبيك، صلى الله عليه وآله وسلم، في قوله:"من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق، رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه".. فقادنا الطمع في كرمك، لنتخفف من ذنوبنا، ونضع أوزارنا من على ظهورنا، قصدناك، وأنخنا مطايانا عند أعتاب بيتك، ثقة بكرمك، وتعلقنا بأستار بيتك، نضج بالقول:(لبيك اللهم لبيك)..
ثيابنا بيض، لكن قلوبنا يعلو أكثرها سواد الظلم، والكبر، والخطايا، والحقد، والحسد، والغل، وأمراض كثيرة باطنة، لم ننتبه لها، ونحن نأخذ تطعيمنا ضد الأمراض الظاهرة، ونخشاها.. فلبسنا الثياب بيضاً قد نصعت، وأتيناك شعثاً، لنغسل قلوبنا من درنها، وننقيها من شوائبها، ضاحين، ملبين:(لبيك اللهم لبيك)..
جئنا إلى بيتك، في البلد الحرام، نغتسل بماء زمزم، معلنين الاستسلام، معلين راية الإذعان، مفتخرين أنك اخترتنا من بين الملايين، الذين يتوقون، تقطعت قلوبهم شوقاً إلى هذا البلد الأمين، فاجتبيتنا من بينهم لنؤمه، مبتغين فضلاً منك ورضواناً، في حين أن ملايين آخرين هم عنك في غفلة، ومنك في بُعد، فقربتنا إليك، ومننت علينا، فأسجدت جباهنا بين يديك، فمن أقصى قلوبنا تخرج الكلمات تردد:(لبيك اللهم لبيك)..
ننتقل من منسك إلى آخر، ومن مشعر إلى مشعر، مقتدين بنبيك، صلى الله عليه وآله وسلم، آخذين عنه مناسكنا، نعزم أن نواصل المسيرة، نجدد النشاط كي لا نفتر، سائلين منك الثبات، والعون، والسداد، فلا تردنا ونحن قد أتيناك مرددين:(لبيك اللهم لبيك)..
في مكة، في البلد الحرام، حيث تساوت الرؤوس ولك انحنت، وخضعت الرقاب لك وانثنت، وتوحدت المشاعر، والشعائر، وخضعت الجوارح واستسلمت، وسُكبت العبرات، وتعالت الزفرات، وسالت الدموع على الخدود حتى روت.
نتخيل أنفسنا ونحن بين الجموع، وأنت سبحانك تباهي بنا ملائكتك الكرام، تقول لهم:( انظروا إلى عبادي هؤلاء، أتوني شعثاً غبراً).. وتسألهم، وأنت أعلم:( ما أراد هؤلاء؟).. ونحن نردد في عرفات:(لبيك اللهم لبيك).
كلنا جئنا إلى هذه البقاع وحالنا يناديك مناداة موسى بعد أن ورد ماء مدين (ثم تولى إلى الظل فقال رب إني لما أنزلت إلي من خير فقير)، فكل فضل منك مرغوب، وكل رضا منك مطلوب، فرحمتك مطلوبنا، وعفوك رجاؤنا، ورضاك غايتنا:(لبيك اللهم لبيك).
جئنا إلى البيت العتيق نتزود من الإيمان والتقى، ففي ثنايا آيات الحج قلت وقولك الحق:(وتزودوا فإن خير الزاد التقوى، واتقون يا أولي الألباب)..
جئنا لنتعلم الصبر، والطاعة، والاستسلام لأمرك، جئنا لنكسر حدة الكبر في نفوسنا، ولنحسن أخلاقنا، ولنتعرف على إخوان لنا لم نرهم في ديارهم فجاء بهم الحج إلينا، فتيسر اللقاء بيننا فالتقينا، يجمعنا الحب فيك، والشوق إليك، وإجابة داعيك:(لبيك اللهم لبيك)..
جئنا إلى مكة، حيث بزغ نور الهداية من جديد، لا ليشرق على جهة ما من العالم، ولكن ليعم نوره كل العالم، شرقه وغربه، شماله وجنوبه، عربه وعجمه، إنسه وجنه، فأشرق بنزول - اقرأ – فجر التاريخ عبقاً بروح العدل، والحرية، والحق والسلام، سادت تلك القيم، وعلت راية الحق منذ استجابت القلوب، ورددت الألسنة:(لبيك اللهم لبيك)..
بدأت شمس الهداية إشراقتها في رمضان، حين جاء جبريل عليه السلام فقال لمحمد بن عبدالله، صلى الله عليه وسلم:(اقرأ باسم ربك الذي خلق، خلق الإنسان من علق، اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم).. فالزمان قريب من الزمان، والمكان هو نفس المكان، بين تلك المشاعر (لبيك اللهم لبيك)..
واختتمت قصة الجهاد والعدل والحرية في مكة أيضاً، في حجة الوداع، حين نزل جبريل عليه السلام بهذه الآية:( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا).. وحين صدع الحبيب صلى الله عليه وسلم خطيباً فقال:"إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا".. فمكة هي منصة التاريخ العظمى، التي أعلنت من فوقها نصوص العدل والحرية والمساواة، وشرعت فيها حقوق الإنسان،(لا يَظلم ولا يُظلم).. ونصبت موازين القيم والأخلاق، وارتفعت راية الفضيلة، وشُيّد منبر الحق، وتوحد الشعار:(لبيك اللهم لبيك)..
فهل نلام في حبنا لمكة؟ وهي منطلق الرسالة الخاتمة، تمحو آثار الشرك، وتمزق ثياب الأوثان، وتزهق روح الباطل، وتُحِطّم على صخورها معاولَ الفساد والإفساد، إذ صدح المصطفى، من فوق الصفا يردد:"لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، نصر عبده، وأنجز وعده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده".. (لبيك اللهم لبيك)..
وفي مكة أعظم دروس للمرأة، حيث أثبتت المرأة أن بأسها شديد، وأنها بصبرها وتضحيتها، وعونها ومساندتها للرجل، يمكن أن تستمر الرسالة، ومن أراد أن ينظر إلى ذلك عياناً فليستمع إلى تلك الكلمات الخالدات من فم امرأة وضعت في موقف لا تحسد عليه، فتملؤها رباطة الجأش، وقوة التحمل، وصدق اليقين، وعظيم التوكل لتهمس في أذن الكون ليصغي إلى المرأة، حين لا تمتهن، إلى المرأة حين تقدر قيمتها، وتنزل منزلتها: آلله أمرك بهذا ؟ قال ( إبراهيم ) نعم، قالت: إذا لا يضيعنا !!!:(لبيك اللهم لبيك).. وليصغ العالم الذي ينادي بحقوق المرأة، أو يهضمها، لمقولة خديجة، رضي الله عنها، وهي تطمئن النبي في أول ليالي البعثة، وقد جاءها يرجف فؤاده:"كلا والله لا يخزيك الله أبدا".. وكم في الحج من آيات بينات، فيا ليت قومي يعلمون:(لبيك اللهم لبيك).
*نقلاً عن "الرياض" السعودية.
عادل الكلباني
لبيك اللهم لبيك 2071