قرر النظام في سوريا نقل أزمته إلى لبنان . يعتقد النظام أن تفجير الأوضاع الأمنية اللبنانية يعطي دليلاً على وجود الجماعات المتطرفة ما يبرر للغرب والعرب أن ينقلوا اهتمامهم إلى لبنان وإلى معالجة مشكلة التطرف، وقد يكون للنظام السوري عندها مبررات أو حتى يتم تخفيف الضغط عنه أو مشاركته في العملية السياسية.
كشف الأمن اللبناني خلية إرهابية كانت تعد لتفجيرات تطاول الآمنين والمدنيين، كما تطاول شخصيات وتؤدي إلى تأجيج النزاع الطائفي والمذهبي . يظهر بوضوح أن الشمال اللبناني مهدد كي يكون امتداداً للأحداث السورية ولنزاع يقحم المسيحيين هذه المرة في أعمال العنف . ويبدو أن المطلوب هو إشعار المسيحيين بخطر “الجماعات السلفية” ما يؤدي إلى استثمار ذلك على أكثر من صعيد، ومن ذلك دفعهم إلى خيار سياسي مناهض لتغيير الأوضاع القائمة في المنطقة، وتعزيز مخاوفهم من “الإسلام السياسي”، لاسيّما “السلفي” . ولم يكن ذلك أول الغيث في لبنان فقد أصرّ البعض على تظهير هذه الصورة وذهب إلى حد القول بوجود قواعد عسكرية لمثل هذه الجماعات، وشدد على مخاطرها على السلم الأهلي.
لكن اللبنانيين بقواهم الأساسية قاوموا حتى الآن الانزلاق إلى العنف الطائفي والمذهبي وسعوا جهدهم إلى احتواء الكثير من التصرفات المشبوهة أحياناً والحركات المنظمة الهادفة إلى تصعيد الانقسام المذهبي . إلاّ أن هذا الحرص على استقرار الساحة اللبنانية لم يكن مضموناً مع تورط بعض القوى في أعمال مختلفة في سوريا أو من خلال مواقف سياسية تظهر أن الحرص على الأمن في لبنان لا يكون بغير دعم مشروع الدولة وتقوية مؤسساتها لا من خلال الخطاب السياسي وحده . ففي مكان ما يشكل الانقسام اللبناني ثغرة واسعة لانفلات الزمام في لحظة من احتدام الأزمة في سوريا أو من دخول جهات خارجية على الداخل اللبناني وتحريكه في هذا الاتجاه أو ذاك . وقد صار معروفاً أن الفرقاء اللبنانيين يتمسكون بخيارات لا توفر أساساً لصياغة الوحدة الوطنية، بل هم ربما لا يدركون أن مثل هذه الخيارات تضع لبنان عاجلاً أم آجلاً في مهب النزاع الإقليمي وتعرضه لأخطار فادحة.
ولم يكن لقاء الحوار بدعوة من رئيس الجمهورية كافياً لتقريب وجهات النظر ولا هو يتناول كل موضوعات الخلاف، ولا يعرض كل الهواجس ولا يوفر ضمانات لجميع الأطراف . فقد كان الأجدر مثلاً إعداد أوراق محددة للحوار وطرح مخارج فعلية شاملة لمصالح اللبنانيين جميعهم، ومنها أيضاً خطة تقوية مؤسسات الدولة ومعالجة الصراع الطائفي التاريخي على السلطة في لبنان . وقد مضى أكثر من عقدين على اتفاق الطائف ومازال هذا الاتفاق محل تفسيرات وتطبيقات مختلفة بعد تعطيل مضمونه الإصلاحي، وإلغاء فكرة التوازن التي قام عليها في موضوع الصلاحيات والسلطات والمؤسسات .
ولطالما تحدث الفرقاء اللبنانيون عن الشكوى والتذمرات من الممارسة السياسية (موالاة ومعارضة)، ما يؤكد رغبة هؤلاء بمراجعة تجربة الطائف أيضاً وتطبيقها باعتبار أن ذلك قد يؤمن التوازن أكثر . لكن الجميع يعرف مخاطر فتح ملف التوازنات الطائفية من دون المشروع الإصلاحي الشامل، من قانون الانتخاب إلى اللامركزية الإدارية، إلى صلاحيات الحكومة ورئيسها إلى صلاحيات رئاسة الجمهورية والقوانين الناظمة للمؤسسات فضلاً عن سلطة القضاء، وتقوية المؤسسات الأمنية ومراجعة السياسات الاقتصادية . غير أن المخاطر المحدقة بلبنان اليوم تدعو إلى ما هو أبعد من الأفكار العامة “الميثاقية” التي صدرت عن اللقاء الأول . فهناك تراجع كبير على الأرض في هيبة الدولة والأمن وفعالية القضاء ومصداقيته، وبات ضرورياً مواجهة المتحاورين بهذه الملفات ومحاولة فصلها عن الانقسام السياسي . ولابُد في هذا المجال من إعادة الاعتبار لآلية تنفيذ اتفاق الطائف عبر إيجاد الهيئة الدستورية التي تضم غير السياسيين أصحاب المصالح، بل تضم الحكماء والعلماء الذين يستطيعون أن يضعوا خططاً جدية لبناء الدولة . على هذا المستوى هناك “الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية”، وهناك المجلس الاقتصادي الاجتماعي ومؤسسات أخرى تحتاج إلى التفعيل فضلاً عن الخوض جدياً في ثنائية التمثيل ونظام المجلسين (النواب والشيوخ) . عندها يستطيع اللبنانيون أن يشعروا باحتمالات إطفاء الأزمة اللبنانية ومعالجة أسبابها .
* نقلا عن "الخليج" الإماراتية
سليمان تقي الدين
تصدير الأزمة السورية 1806