إن ظاهرة البلطجة في مصر ليست مرتبطة بحالة الانفلات الأمني التي أعقبت ثورة 25 يناير،فهي ظاهرة وجدت من قبل في المجتمع المصري،وإن مرت بتحولات وتطورات كثيرة،ربما كان أكثرها وضوحاً ما ارتبط بالفترة التالية علي الثورة، ورغم قدم هذه الظاهرة في مصر،فإن الدراسات التي اهتمت بدراستها وتحليلها محدودة.
إن النشاط الإجرامي الأساسي للعينة التي تمت دراستها هو السرقة بالإكراه بنسبة81%، ثم الاتجار بالمخدرات بنسبة 72%.. ويمكن رصد بعض أبعاد التطور الذي طرأ علي ظاهرة البلطجة في مصر بعد الثورة. فمن ناحية،طرأ تطور نوعي علي الأسلحة المستخدمة من قبل جماعات البلطجة. فحني نهاية الحرب العالمية الثانية، كان السلاح الرئيسي لهذه الجماعات هو العصي أو"النبوت"، بينما لوحظ خلال الأشهر التي تلت الثورة، امتلاك بعض وضعفية لأسلحة ثقيلة ومتقدمة للغاية.
وقد ساعد علي ذلك انهيار النظام السياسي وجهاز الشرطة، وضعف التحكم في حدود الدولة المصرية،مما سهل عملية تهريب الأسلحة إلى داخل مصر عن طريق دول مجاورة،مثل ليبيا والسودان.. يعني تحرير الإنسان من الخوف والحاجة، وبعد الثورة طرحنا سقفا عاليا من الطموحات وكان الأمل في بناء مؤسسات تحقق مفهوم ألأمن كما يتطلع إليه الناس ولكن ما صاحب الثورة من توترات تمثلت في الحركة غير المنضبطة للطلبات الفئوية، والإضرابات المستمرة التي تعطل حركة الإنتاج والتواجد الملحوظ للبلطجية في كل التجمعات الجماهيرية الكبيرة جعل الأمل في تحقيق الأمن يضعف، وبدأ أن هناك شعورا بالقلق والتشاؤم يتزايد بين عموم الناس حتى وصل الأمر إلى حد التساؤل هل تلك المظاهر غير المنضبطة لحركة الشارع هي بداية النهاية لتلك الثورة المجيدة، فبدلاً من أن تتحول الثورة إلى دولة بدا الأمر لرجل الشارع العادي وكأن الثورة تتحول إلى فوضى حتى أصبحت الناس تردد مقولة الرئيس المخلوع (أنا أو الفوضى)، مع حلّ أجهزة الضبط الأمني وبالتحديد أمن الدولة وإعادة هيكلتها من جديد فيما يسمى بجهاز الأمن الوطني، ومع الاعتراف بالتجاوزات التي صاحبت أمن الدولة أيام الرئيس المخلوع، إلا أنه لا يمكن أن ننكر أن أجهزة كانت تتبع هذا القطاع كانت تقوم بدورها بفاعلية وإخلاص وأن التجاوزات انحصرت تحديدا في الأجهزة التي تتعامل مع عموم المصريين وخاصة أولئك المعارضين للنظام.
ولقد انعكست العذابات التي عانى فيها المصريون خاصة أولئك الذين كانوا يعارضون النظام في تبلور توجه سعى في ضرورة الحد من سلطات الشرطة وتقييد حركتها وبالتالي تولدت ضغوط شديدة على جهاز الشرطة حد من مقدرته على أداء دوره بفاعلية خاصة مع العداوات التي ظهرت في البداية ضد رجال الشرطة في بدايات الثورة، وصلت إلى حد حرق الأقسام ونهب محتوياتها، مما تسبب في هز هيبة رجال الشرطة أمام الجمهور، بحيث أصبح رجال الشرطة يعاملون الجمهور بلين يخفي شعوراً بالانكسار حتى وصل الأمر إلى حدوث اعتداءات على رجال الشرطة في الشارع.
وقد ترتب على هذا الخلل شعور انتشر بين رجال الشرطة بالإحساس بالمهانة وأنهم يدفعون ثمناً غالياً وغير عادل بطاعتهم للنظام السابق، وهم في تصورهم هذا كانوا مجبرين على ذلك وأن حقوقهم الآن أصبحت منتهكة ووصل الأمر إلى حد ظهور ائتلاف للدفاع عن حقوقهم، كما ظهر في ائتلاف أمناء الشرطة وهو أمر غريب في مؤسسة منضبطة كجهاز الشرطة.
وهذا التداعي الأمني وعدم قدرة جهاز الأمن على ضبط الشارع واضطرار الجيش إلى النزول للشارع والقيام بواجب الشرطة الطبيعي في تأمين المنشآت سبب توتراً لدى الجيش نفسه، لأن الجيش غير قادر ولا مهيأ لممارسة المهام الأمنية، فهو جهاز يعمل في مواجهة العدو ومسلكه الرئيسي هو القتل، فهو لا يعرف لغة الحوار مع العدو، إن عدم وجود شفافية أدي إلى غياب العقل في التعامل مع الأحداث وبدأ الجميع يبحث عن نفسه مما أدي إلى وجود تفسخ ثقافي والنتيجة الطبيعية لهذا التفسخ الثقافي هي العنف.
إن هذه الفترة بما فيها طبيعية بعد الثورات والحضارة المصرية عبر التاريخ الممتد لآلاف السنين تقول هذا، بما يعني أن الأمور ستعود لطبيعتها سريعاً ولن تترك أي أثر نفسي.. وعلينا فقط الاهتمام بالأطفال وإدخالهم في نشاطات سواء رياضية أو فنية أو اجتماعية حتى يشعروا بالسعادة والأمان وتبعد بهم عن هذه الأحداث.
تتسم إدارة الجيش السياسية بالتؤدة والتدريجية وعدم الاندفاع مع ضعف الشفافية، نمط يقوم علي العمل في سياق النظام السابق وليس الارتكان إلى معايير جديدة تماما في بناء المرحلة القادمة. وهو ما اعتبره الكثيرون من وجهة النظر الثورية أداء بطيئا بل وأحيانا تباطؤا في تحقيق المطالب وأيضا مناقضا للمنطق الثوري. وقد غلب نمط المطالبة - الاستجابة، أو الفعل - ورد الفعل علي العلاقة بين الشارع السياسي والمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وتأتي استجابات المجلس كرد فعل أكثر منها كمبادرة، وهو ما سماه البعض بإستراتيجية الحد الأدنى من التحرك.. وذلك بمعني العمل على إحداث أقل تغيير مقبول وتحت ضغط مطالب شعبية متصاعدة ويجب الانتباه إلى متغير هام لتفسير تباطؤ الجيش في تحقيق أهداف الثورة وهي الجهاز الإداري القائم وهو ابن النظام السباق الذي لا يزال هو المتحكم في تنفيذ القرارات، ويتبع نفس النمط القديم في التفكير أحياناً عن عمد وكثيراً عن تعود.
وهو الأمر الأكثر ارتباطاً بمصالح مباشرة للمؤسسة العسكرية.
مع نهايات عام 2011 زادت درجة التراخي في معالجة أزمات المرحلة الانتقالية، لقد أضحى العنوان الرئيسي لإدارة المرحلة الانتقالية هو التخبط والعشوائية وغياب الشفافية ورفع المصالح الخاصة (فئوية أو حزبية أو مؤسسية) على المصالح العامة وغياب الإرادة الحقيقة للتغيير والإصلاح. تسارعت معدلات الأزمات، وازدادت الأخطاء في التعامل معها، وأستمر التراخي في العمل على مواجهة جذورها ومسبباتها.. فلنلقي نظرة سريعة علي تطور الأحداث ونمط اتخاذ القرار خلال الأربعة أشهر الماضية، مررنا بمحن كثيرة.. أما على مستوى الإخفاق في التعامل مع مشاكل المرحلة ألانتقالية، فالانفلات الأمني مستمر والأحوال المعيشية للمصريين في تدهور (أزمات السولار والبنزين والبوتاجاز والخبز)، واستمر تراجع صافي احتياطي ليصل إلى 15.7 مليار دولار مع عدم الجدية في استرداد الأموال المنهوبة من الخارج، واستمرار السياسة الخارجية المصرية بدون مراجعة حقيقية منتجة نفس أخطاء مبارك، ولعل أزمة توريد الطاقة لغزة وكيفية التفاوض مع الولايات المتحدة في قضية التمويل الأجنبي لدليل بارز علي ذلك. إن ما نقرأه في الصحف أو نشاهده علي الفضائيات يحدث نوعا من التردد يصيب به ما يطلقون عليهم الأغلبية الصامتة أو "حزب الكنبة"، لأنهم يقرأون ويشاهدون أحداثاً والتناول الخاص بها ليس مختلفاً فقط، بل متناقضاً في بعض الأحيان.
إن الشخصية المصرية بعد الثورة نوعان: الأول ازداد إصراراً على الثورة والمطالبة بالتغيير مهما كان الثمن.. والنوع الثاني وهم الأغلبية الصامتة أو كما يطلقون عليهم حزب الكنبة وهم الأكثر سلبية، حيث شعرت هذه الفئة بالخوف والقلق علي مصالحها الشخصية ولهذا لا تريد أي تغيير، بل تريد العودة للوراء، فهذا النوع دائماً مكتئب خائف من المستقبل ومنهم من فقد وظيفته من جراء الأحداث ولهذا يصاب بضيق واكتئاب والضبابية في الرؤية المستقبلية.
كاتب مصري دكتور في الحقوق وخبير في القانون العام
د. عادل عامر
البلطجة الجنائية والسياسية ودورها في المرحلة الانتقالية 2236