بمرارة وحزن عميقين تجبر هذه اللحظة المفصلية الثائر الإيجابي المتحرر من الإمعية الحزبية والجهوية والقبلية والمذهبية على إعادة قراءة إجمالي وتفاصيل المعطى الماثل لممارسات ومواقف الرئيس السابق (علي صالح) وتجسيداتها من خلال أفراد عائلته وأقاربه ومقربيه من الشخصيات والوجاهات المرتبطة به بعلاقة محيرة فعلاً. هذه القراءة الجديدة -التي لابد منها- تستند على معايير براجماتيه تربط الممارسات بالنتائج, والماثل بالمآل, وهي مغايرة تماما للقراءة المثالية الساذجة التي تستند على احتمالات افتراضية غير ملموسة, منطلقة فقط من افتراض حسن النوايا مع البحث العبثي المضني, وسط الظروف والعوامل وطبيعة المجتمع والصراعات والمكايدات والمكابرة, عن مبررات منطقيه مقبولة لأفعال وممارسات غير منطقيه وغير مقبولة.
واستناداً إلى هذه القراءة الضرورية والحتمية, فإن الماثل اليوم هو عبارة عن منظومة إستراتيجية متكاملة من الممارسات والمواقف والأفعال المجسدة في منطلقاتها وآثارها وغاياتها لرهانات بالغة الخطورة على الوطن والشعب بماضية وحاضره ومستقبلة, بما يجعل من كل رهانٍ على حده خيانة وطنية عظمى (تتضاءل أمامها كل خيانات وجرائم العالم, على حد تعبير المدعي العام اليمني عند محاكمة الأصنج آنذاك).
وجدير بالتنويه قبلاً إلى أنه لا يمكن لمقالة موجزة إنجاز تشخيص استقرائي تام, وإنما سنكتفي هنا بالتدليل العلمي الاستقرائي (الناقص المعلل) على النحو الآتي:
1- التحكم البالغ الدقة بمسألة استخدام السلاح كماً ونوعاً, مكاناً وزماناً ومساراً, وفقا لمدى قدرته هو على الحسم, مستغلاً في ذلك فقط يقينه الغريب حقاً بحقيقة انعدام إمكانية اتخاذ قيادة قوى ومكونات الثورة قرار الحسم المسلح كونها تجمع مكونات وقوى شديدة التباين, ولكل منها حساباته لمقدار عائداته من حسم مسلح قياساً بتضحياته. إلى جانب ما سيطر على وعي وعقليات الكثير جداً من قيادات العمل الثور ي من قناعاتٍ تشكلت بفعل نجاح الثورات السلمية بتونس ومصر, وغذتها بشكل ممنهج وخبيث قنوات ووسائل وأدوات علي صالح .
ووفقاً لرهان صالح هذا فقد تمكن فعلياً من الاستغلال الشيطاني المتوحش لمسار الأحداث والوقائع والعامل الزمني لإعادة غربلة قوى الجيش والأمن ومراكز النفوذ على كافة الأصعدة مستخدما في ذلك كل ممتلكات اليمن المادية والمعنوية لضمان إعادة تكوين قوة عسكرية وأمنية عائلية الولاء 100% مهما كان حجمها وعددها وعتادها مع غطاء سياسي وجماهيري نوعي عائلي الولاء حتى النهاية بما يمكنه من التعاطي المرحلي مع الاستحقاقات الحتمية للزخم الثوري المحلي والإقليمي والعالمي ومن ثم الانقضاض على كل ما اُنجز في طريق تلبية تلك الاستحقاقات .
وقد نجح فعلاً في تمحيص الجيش والأمن والمؤتمر الشعبي والنواب والشورى وغيرها من بقايا البقايا للطابع المؤسسي الوطني, مما مكنه فعلاً من تجاوز الانهيار التام في أسبوع جمعة الكرامة, مانحاً إياه وقتاً كافياً لإعادة بناء منظومته العائلية الولاء وإعادة توزيع وتقسيط استخدام السلاح في حروب استنزافية بالغة الكلفة على قوى الثورة بصفة خاصة والشعب اليمني بصفة عامة دون تأثيرها على منظومته سلباً، ومن ثم فقد تحكم فعلاً في استخدام السلاح من حيث الزمان والمكان والمدى الزمني وحجم الاستخدام، فمن مدينة صنعاء وضواحيها الشمالية إلى تعز إلى أبين إلى أجزاء من الجوف وعمران و حجة ولحج والضالع وعدن وشبوه وحضرموت, كان هو المحرك والمتحكم في كل ما سبق.
2- الرهان على حالة ومستوى وعي الشعب اليمني العظيم - البريء - الطيب - الكريم بقيمه وثقافاته وعاداته والكثير من قضاياه, منطلقاً من نظرة وتقييم استخفافي استحقاري استهجاني للمجتمع اليمني بكل مكوناته وقواه, وفي المقدمة منها قيادات ،وكوادر، وقواعد، وأنصار المؤتمر الشعبي العام وتكويناته النوعية.
ولتفعيل وإنجاح رهانه هذا أعد -بمنهجية علمية فاعلة- آليات هائلة فعلاً قادرة على التعاطي مع التنوع القائم في ساحات الفعل الثوري المهني والثقافي والسياسي والمذهبي والمناطقي والجهوي والاجتماعي و...الخ, واستهدف -باحترافية بالغة- الزخم الثوري بركيزتيه الأساسيتين: الوعي الثوري و القيم الثورية, مع فرض إعادة ترتيب أولويات الفعل الثوري بحيث يتوارى عن الترتيب الأول ضرورة إسقاط النظام وبالأخص رأس النظام وعائلته وأقاربه ومقربيه، كما دفع إلى ساحات الفعل الثوري بجملة واسعة من المحاور النقاشية الصدامية التفكيكية لتشويه واستلاب قيمة وأهمية تفكك ركائز وقوى النظام وانضمام البعض الفاعل منها إلى ساحات الفعل الثوري, إلى جانب اجترار وبعث كل مكونات ومفردات وعوامل وآثار الصراعات القديمة إيديولوجياً وسياسياً واجتماعياً ومناطقياً ومذهبياً وشطرياً.
وبغض النظر عن ما أنجزه استناداً إلى هذا الرهان فإنه قد انتهج نهجاً خيانياً تضليلياً تزييفياً بالغ الخطورة على حاضر ومستقبل النسيج الاجتماعي للمجتمع اليمني.
3- رهان آخر يبكي القلوب قبل المقل, تتحدد به ملامح وآفاق مستقبل اليمن بأرضه وإنسانه, وهو الرهان على أوراق ثلاث: أولاها القضية الجنوبية, وثانيها الحركة الحوثية, وثالثها الحركات الإرهابية المتطرفة (القاعدة وتفرعاتها).
فقد أوغل في إرباك وإحباط وشغل قيادات الفعل الثوري في الساحات مبعداً إياها من القدرة على صياغة معالجات مقبولة للأضرار التي لحقت بأبناء الجنوب وقياداتهم وأبناء صعده وامتدادات حركتهم الحوثية, بما مكنه من جعل هاتين الورقتين مثاراً لمواقف متباينة تحول دون التحام قوى ومكونات الثورة في إطار من الثقة المبنية على وحدة ووضوح الأهداف والمعالجات والضمانات المستقبلية لعدم تكرار ممارسات النظام السابق القائمة على الفساد وانعدام أُسس المواطنة المتساوية والحقوق والواجبات وكل المتطلبات اللازمة للانطلاق نحو الدولة الديمقراطية المدنية المؤسسية المعاصرة.
وفي الوقت نفسه فإنه عمل على تغذيه كل تلك الأوراق الثلاث بكافة مستلزمات النمو والتمدد والتصلب والتطرف حتى تصبح أوراقاً حاضره فعلياً أكثر من حضور ساحات الفعل الثوري, فاتحاً بذلك شهية وأوهام وأحلام قوى إقليمية ودولية ومحلية ذات حسابات إستراتيجية تسعى إلى تصفياتها على المستوى الإقليمي والعالمي من خلال العمل على قيام دولتين أو ثلاث دول أو أكثر في اليمن بعد انحسار الثورة أو انهيار الدولة وفشلها.
كما أنه مد القاعدة بكل عوامل ومهيئات ومستلزمات إعادة التنظيم والتخطيط والتوسع والنمو, معززاً إياها بغطاء ورديف شعبوي متعدد الدوافع تحت عباءة القاعدة وباسم أنصار الشريعة مسخرا في ذلك المخزون العسكري من السلاح وحتى الأفراد والخبرات مع التمويل المطلوب, مخصصاً ومانحاً الأراضي الجنوبية بصفة خاصة كملعب لتلك القوى المسلحة.
وبغض النظر عن الحقائق اليقينية القائلة بفشل إمكانية إعادة دولتي الشمال والجنوب أو حتى انقسام اليمن إلى ثلاث دول أو أكثر, كون حاضر ومستقبل أبناء اليمن حياةً أو موتاً يرتبط بمقدار بقائها موحدة من المهرة وسقطرى حتى صعدة وجزر البحر الأحمر الجنوبية, إلا أن استخدام صالح لتلك الأوراق في رهاناته يعرض الشعب اليمني -لا سمح الله- لصوملة مؤقتة قد تطول فترتها الزمنية أو تقصر, بما يجعل من استخدامه لهذا المسلك المتوحش والجنوني انتقاماً يتجاوز بكثير جميع مفاهيم الخيانة العظمى.
4- الرهان الماثل اليوم والمتمثل في الاستغلال المافوي المريع لكل تلك المعطيات التي هيأها صالح بغرض استخدامها في هذه اللحظة لشل وتعطيل وتفكيك المؤسسات الشرعية المنبثقة عن المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمنة وقرارات المجتمع الدولي وانتخابات 21 فبراير 2012. فهاهو اليوم يوشك على استخدام قواه الأمنية والعسكرية والإستخباراتية للإجهاز على المؤسسات والقوى القائمة على حماية سيادة واستقرار وسلامة ومصالح الشعب اليمني, مع استمراره في استخدام مخزونه الأمني والعسكري والاستخباراتي والمالي الضخم جداً في رفع وتيرة وحدة وشدة العمل المسلح لقوى التطرف والإرهاب وقوى التقطع والخطف والتهريب والتخريب الممنهج, وإشعال وإذكاء نار الفتن القبلية والمذهبية والمناطقية على امتداد الساحة اليمنية.
هذا إلى جانب تفعيله لغطائه السياسي والجماهيري النوعي في المؤتمر ومجلسي النواب والشورى والمؤسسات للقيام, وبوتيرة ونشاط منقطع النظير, بانتهاج كل الوسائل والأساليب والممارسات المعرقلة والمحبطة لعمل الحكومة واللجنة العسكرية والأمنية ورئاسة الدولة, بما يعيقها حتماً عن إنجاز المهام المطلوبة, مستنزفاً منها كل الوقت والجهد.
إن هذا المسلك الخطير جداً يقوض وينسف كلياً الشرعية التي انبثقت عن التوافق السياسي المتجسد في المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية وقرارات المجتمع الدولي وانتخابات 21 فبراير, بما يحولها إلى مجرد طرف تحاوري غير مقرّر, ترتبط قراراته وإجراءاته ومهامه بمسار ونتائج حوارات مع شرعية أخرى ما انزل الله بها من سلطان, ترتكز ميدانياً على حضورها الفعلي المهدد لحاضر ومستقبل اليمن بقيادة علي صالح وعائلته وأقاربه ومقربيه . وما حضور جمال بن عمر وسفراء التعاون الخليجي والاتحاد الأوروبي وأمريكا للتحاور فعلياً أو ضمنياً مع علي صالح, وحضور بن عمر دورة التسليم والاستلام بين قاده عسكريين من قوة صالح وآخرين يمثلون الشرعية الحقيقية, إلا تجسيد فعلي وصريح وواضح لا لبس فيه لاستمرارية شرعية صالح وعائلته وأقاربه ومقربيه مثلما كانت قبل المبادرة الخليجية تماماً، وهذا بكل تأكيد إجهاض عملي ميداني للشرعية التي انبثقت عن المبادرة الخليجية.
إن الجميع اليوم أمام حقائق هامة, منها أن بقاء الأخ/ عبدربه منصور هادي في رئاسة الدولة وكل الذين تم التوافق عليهم كمفوضين عن المؤتمر الشعبي العام في اللجنة العسكرية والأمنية والحكومة يستلزم حتماً, ووفقاً للعقل والمنطق, إعادة النظر في أمر بقائهم في هذه المواقع أو الاستقالة, كون شرعية صالح الميدانية تتناقض تماماً مع شرعيتهم المؤسسية الرسمية, إذ لا يمكن القبول ولا التصديق ولا الاستساغة السياسية والقانونية والأخلاقية والقيميه لوجود شرعيتين وطرفين يديران الاختلاف والتصادم والتحاور والاتفاق بينهما مختطفين قسرياً قضايا ومصالح ومصير الوطن والشعب اليمني, كونهما طرفاً واحداً لا طرفين. وعليه فإما استقالة الطرف الحائز على الشرعية الحقيقية, وإما اختفاء وزوال الطرف الآخر الحائز على شرعية التهديد بالتضحية بمستقبل اليمن. وهذا يتطلب حتماً الفصل الفوري والعاجل جداً بين المؤتمر الشعبي العام كطرف في التسوية السياسية التي تمت فعلاً والمؤتمر الشعبي العائلي الخاص، أما البقاء على هذا النحو القائم فانه يمثل ويعبر ويجسد بكل المعاني المؤلمة الاستمرار في الإمعان الاستخفافي الاستهجاني والعبث بالشعب اليمني كله وبالأشقاء والأصدقاء من الخليج إلى أوروبا إلى أمريكا وروسيا والصين, بل العالم كله.
وقبل الختام فجدير بالتنويه أن البرلمان غير شرعي وغير دستوري الآن بفعل انتهاء مدته الدستورية, ثم انتهاء مدته التمديدية التي قامت على أساس اتفاق سياسي في حينه حرمه من إمكانية دستورية لتمديد آخر... هذا البرلمان فقد شرعيته أيضا عندما تحول إلى صانع للازمات بأن قرر الانحراف بمهامه عن دستوريتها وإعادة تفصيل وتطويع الدستور لمصلحة العائلة... ولعله لا أشهر من مقولة "قلع العداد من الدستور"!.
كما أن انبثاق حكومة ولجنة عسكرية ورئيس دولة وفقاً لمنطلقات وغايات وأهداف ومسارات ووسائل محددة بدقة ومعززة بشرعية سياسية وطنية توافقية وإقليمية ودولية وشعبية انتخابية ولمدة عامين قادمين, وبصلاحيات لا حدود لها, بما فيها إعداد وصياغة دستور جديد, لم يترك لهذا البرلمان نسبة تذكر من شرعية البقاء.
ورغم فقدانه للشرعية إلى تلك الدرجة, فإنه يلوح ويهدد يومياً بسحب الثقة عن الحكومة ذات الشرعية المطلقة, في مشهد فريد من نوعه يجسد الكوميديا بامتياز وفي ذات الوقت التراجيدي في أعمق معانيها المأساوية.
ختاماً, فإن على الرئيس هادي واللجنة العسكرية والحكومة الإصدار الفوري لجملة من القرارات الحاسمة حسماً نهائياً, والتعامل بالجملة بدلاً من التجزئة, ومن ثم توجيه الدعوة والتكليف للشعب اليمني وقوى الثورة بالإشراف والمتابعة على تنفيذ كل القرارات والإجراءات الصادرة عنه وإجبار أي متمرد على إنهاء تمرده وإلقاء القبض عليه وإحالته إلى القضاء, كي يستعيد الشعب جميع حقوقه السابقة واللاحقة. وليكونوا على ثقة يقينية مطلقة أن الذي فجر الثورة في وجه النظام السابق -بكل ما كان يمتلكه- قادر اليوم وخلال ساعات أو أيام فقط على تنفيذ كافة القرارات والإجراءات الصادرة عن الشرعية الوحيدة القائمة اليوم، وليكن العالم كله شاهداً على قدرة هذا الشعب ومدى وعيه واستعداده لاحتضان التحول الحضاري المنشود.
ما لم, فليعد صالح مع عائلته وأقاربه ومقربيه إلى سدة الحكم من الباب بدلاً من عودته/عودتهم الحالية من النافذة.
محمد عبدالرحمن سفيان
رهانات خيانة عظمى ؟ 2081