أشك وأجزم.. كانت إحدى الجمل التي يرددها أحد أصدقائي بشكل متكرر في كل جلسة مقيل أو نقاش أو حوار وبما أنه يحاول دائماً التكلم بالفصحى حتى لا تموت اللغة العربية -كما يقول- خصوصاً أننا في اليمن أصل العرب.. ونحن العرب العاربة لا المستعربة ولهذا ينبغي أن نحافظ على اللغة من التكسر والاندثار والتدهور والتموج والتمييع والذوبان وسط بحر من اللهجات المتعددة التي تأكل بعضها بعض أحرف الهجاء أو تنطق مجموعة أحرف منها وكأنها حرف واحد.
كثيراً ما تعرض صاحبي للسخرية والانتقاد، خصوصاً من أولئك الذين لم يعرفوا من اللغة العربية، إلا بعض أدوات الاستفهام كم وكيف وأين.. أو بعض أسماء الإشارة المنطوقة بالطريقة الفارسية أو الهندية أو أي من لهجات الدنيا مثل هذوم وهذونه وذولا أو هؤلاء وهم معذورون، لأنهم لا يعرفون من العربية إلا اسمها ولا يفرقون بين العربية لغة والعربية السيارة بالتسمية المصرية أو العربية التي يجرها الخيل أو التي يدفعها الإنسان أو العربية القناة الفضائية.. ووجدوا أنفسهم في طفرة الفساد والانحدار الثقافي والتربوي والتعليمي يترأسون المجالس ويتصدرونها يستهزئون بمن أفنوا حياتهم علماً ويسخرون من الشهادات التي ليست إلا أحباراً تشوه جمال الورق التي تقع عليها برأيهم.. وإن لم تكن كذلك لما كانوا هم حملة دفاتر الشيكات وساعات الروليكس وأجهزة الاتصال وأغلى موديلات السيارات وهم لا يعرفون كيف يمسكون القلم أو يكملون كتابة جملة أو يستطيعون الحفاظ على سطر الكتابة دون أن يأخذ طريقه في الانحناء أو الميلان فلا يكتمل السطر وإلا قد قسم الورقة إلى مثلثين ينطبقان على بعضهما تمام الانطباق ..وقد تكون هذه عبقريتهم في الهندسة..
كان صاحبي في إحدى الجلسات يشرح بأريحية ضرورة المحافظة على اللغة العربية الفصحى وإلزام الموظفين في الوظائف العامة والمدارس والجامعات ومختلف المؤسسات بتكلم الفصحى حتى لا تبقى اللغة حبيسة الكتب في المدارس والتخصصات فقط.. وضرورة تعريب العلوم ووو.. فيدخل أحد الساخرين المجلس، محملاً بالأجهزة على كتف لاف توب -كما يسميه- وعلى الآخر جهاز ثرية للاتصال مع الأقمار الصناعية مباشرة.. أما حزامه فكان مثقلاً بأربعة أجهزة موبايل لكل شركة جهاز ووسط الأجهزة مسدس أو كلك، وعلى رأسه نظارة شمسية وعلى جيبه نظارة طبية للقراءة على طريقة أم كامل, وعلى أذنيه سماعة البلوتوث..
وللعلم لا يحمل صاحب الأجهزة شهادة المرحلة الابتدائية.. يلقي على كل من في المجلس السلام باستعلاء وغباء وهو بذلك الشكل الكاريكاتوري الذي يشبه قطعة المغناطيس التي تحمل بعد أن ترمى على كومة من المسامير لكثرة ما يحمل من أجهزة كما ذكرنا ملتفتاً إلى صاحب اللغة العربية ساخراً منه ومستهزأ به أيش يقول أبو الأسود الدعري وطبعاً يقصد أبي الأسود الدؤلي ويقهقه ضاحكاً ساخراً من حال صاحب اللغة المشغول بالمصطلحات والتعريب ويشاركه ضحكته معظم من في المجلس دون معرفة سبب ضحكه، ولكن كما اقتضت العادة هذا صاحب جاه ومال يملك تلك التي قالوا عنها هي اللسان لمن أراد فصاحةً وهي السلاح لمن أراد قتالاً, ويجتر المهتم باللغة آهاته متحسراً بعد أن أعرض عنه الجميع، موجهين كل الإصغاء للفصيح بالمال لا باللسان والفيلسوف بالمادة لا بالعلوم، غير مهتمين بثقافته القائمة على كم وكيف رغم معرفتهم بحالته التي كان عليها ويرثى لها قبل سنوات قليله.. فلم يسألوا كيف؟ ولم يسألوا من أين؟ بعد أن سقطت ثقافة الشرف والنزاهة والوطنية من قائمة عصر الزعيم..عند ذلك ودع المجلس مصراً على مقولته التي يكررها، مردداً أشك أن الفاسد سيصلح وأجزم أن الفاسد لن يتغير وللحديث بقية.