خلق الله الإنسان وميزه عن غيره بالعقل ليُسير حياته وفق المجالات والطرق الصحيحة ويوزن الأمور والأقوال والأفعال ويميز الصح من الخطأ والحقيقي من الوهمي وجعله الله عز وجل المتحكم بكل حركات وتصرفات الإنسان، بل المرجع لصاحبه والفاصل في الشبهات التي تعتريه والمتحقق من المعقول واللامعقول واتخاذ الأمر الفاصل في قراراته وتقويم سلوكياته.
وكذلك جعل الله العاطفة خصلة من خصال القلب مثلها مثل الحب والحنان والمتعة والحسد والسخط والبغض و...إلخ، فلها تأثيرها على قلب الإنسان وزرع المشاعر والأحاسيس في جوفه , فالعاطفة تشمل النوازع والميول والدوافع التي تدفعه إلى تحقيق رغباته , فعلاقة العاطفة مع العقل علاقة عكسية , فعند زيادة العاطفة يقل تحكيم العقل والعكس صحيح عند تحكيم العقل تقل العاطفة , فدرجة تأثير العاطفة تعتمد على النمو العقلي للفرد فالصبي أكثر عاطفية من الرجل العاقل واقل تحكيما للعقل والرجل أكثر تحكيماً للعقل وأقل عاطفة من الصبي هذا بعيداً عن قيود وأغلال العادات والتقاليد والأعراف المفروضة على المجتمع, لأن العقل والعاطفة يتأثران بالبيئة المحيطة بهما ويكونان جزءاً من الواقع الاجتماعي للفرد والمجتمع.
فالقاعدة المتحكمة في علاقة العقل بالعاطفة هي علاقة إتباع تتكون من تابع ومتبوع إما أن يكون تأثير العاطفة تابعاً للعقل فتحتكم به ويكون العقل مسؤولاً عن التحكم بالعاطفة , وإما أن يكون العقل تابعاً للعاطفة، فتتحكم العاطفة بالعقل وتفرض عليه اتخاذ قرارات وانطباعات ما تملي عليه العاطفة وتودي بصاحبه إلى مالا يحمد عقباه, ولقد ساهم في انتشار هذا الصنف لدى الناس عدم الاطلاع على حقيقة الأمور والتحقق عن مايقال له وما يستمع إليه.
فالعاطفة الطاغية على تحكيم العقل أصابت في هذا الزمان كل المستويات والفئات من الناس حتى أصابت أصحاب العقول الناضجة وحاملي الشهادات والمؤهلات العلمية العليا , فهل هي قوة المؤثر أم ضعف المُتأثر؟! حتى أصبحت هي من تُسير حياة الناس في تفكيرهم وأدبياتهم وأحلامهم وتُفرض عليهم سلوكيات و حدوديات التعامل مع الآخرين وفق ما تلبي لهم رغباتهم ونوازعهم , ولا أنادي هنا بأن نكون عديمي العاطفة والمشاعر والإحساس بل على العكس لولا العاطفة لما كان هناك التراحم والعطف والإحسان بين الناس، ولكن أنادي بأن تكون عواطفنا محتكمة إلى العقل والتفكير الصائب الذي يرفع من مكانة صاحبه وأن ننظر للأمور والأفكار بواقعيتها فكثيراً ما تأخذنا عواطفنا ورغباتنا إلى عمل أو اعتقاد شيء ما ولكن عقولنا ترفضها تماماً وكثيراً ما تكون هناك أمور وحقائق ووقائع يقرها العقل وترفضها العواطف , فغالبا ما يقرره العقل يكون الصائب وان ترك خلفه مرارته وأثره السلبي لدى العاطفة , فلا يجب أن نجعل تفكيرنا وعقولنا رهينة الهوى والعاطفة, وأن نستشعر عظمة العقل ووظيفته التي وهبها الله تعالى للبشرية، فجميع الديانات جاءت تخاطب العقول لا العواطف وكما قيل ( عاطفة بلا عقل عاصفة).
حيث أن هناك طائفة من الناس لم تستطع أن تصل إلى عقول الناس بالدليل والحجة والبرهان لتستقطبهم إلى ما ترنوا إليه، فذهبت تثير الكلام النظري البعيد عن الواقعية والذي لا يكون مقبولاً لدى الناس ولا يُصدق، وكثير ما يكون افتراءً وكذباً لا أساس له من الواقعية والصحة وهي تعلم ذلك، وتزينه بالكلام العاطفي وتسبغه بالاختلاف الطائفي المذهبي والنزعة المناطقية والعنصرية حتى يفضي كلاماً معسولاً يستجيب له الناس، بعد أن عجزت مخاطبة العقول ذهبت تخاطب العواطف على أمل أن تصل إلى ما تريد وهذا لا يجدي نفعاً لأن العاطفة سريعا ما تنهار مجرد ما تظهر الحقائق على واقعيتها , فالعاطفة هي أرضية ووقتية وغير مستقرة بقدر ما تبدو جياشة وقوية تنتهي بالسرعة التي بدأت بها، أما نتاج العقل فهو دائم وثابت ومستقر وينتج الحقائق الدائمة التي تصب في صالحه وفي صالح مجتمعه، فمخاطبة العقول ابلغ وأنفع من مخاطبة العواطف.
فكثير ما يصيب القلب من التأثير العاطفي والكلام النظري و التنظيري فهذا شيء لا نفي له، فهو من صفات وخصائص القلب ولكن هذا التأثير يجب أن يخضع إلى عملية تحليل و دراسة من قبل العقل لمعرفة حقيقته من وهمه وجده من هزله وهل هي مكتملة أم مجتزة, ففي حكاية السابقين يذكر أن (( قاضياً قُدم إليه رجل وقد فُقئت إحدى عينيه من إثر تصارعه مع شخص آخر، فشكى ذلك إلى القاضي فطلب من القاضي أن يحكم له فرفض القاضي أن يحكم له إلا بعد أن يرى الرجل الآخر الذي صارعه فصاح من حوله لماذا لا تحكم للرجل وقد فقعت إحدى عينيه فرد عليهم القاضي: من يضمن لي أن الرجل الأخر لم تفقأ عيناه الاثنتان))، فعاطفة القاضي لم تسيطر على عقله, فتغليب العاطفة على العقل تنذر بكارثة لصاحبه وقد يصل الخطر إلى غيره, فلكي نحكم على الأمور يجب أن نتحقق من جميع الأطراف لا أن نستمع لطرف ونترك عواطفنا تُوجهنا إلى ما تُريد لا إلى ما نُريد وتُسيرنا عكس اتجاهنا ونحكم على الآخر حسب كلامه.
فوسائل التأثير على العقل والعاطفة في هذا الزمان الإعلام بكل أقسامه وأشكاله، فقد شارك بشكل كبير في تغلب العاطفة على العقل بعد أن وجد من يستجيب له, فنجد من الكلام العاطفي في صدارة الصحف والمجلات والقنوات الإعلامية التي تشارك في تجهيل وتخلف المجتمعات وتجعله رهينتها لتشبع رغباتها ونوازعها الذاتية والضيقة، فهي تعمل على صنع جيل من الناس من الذين تاهوا في غيها وانغمسوا في وحل الأنانية وحب الذات سواء كانوا أفراداً أو جماعات، فتصنع جيلاً فاقد الوعي وامتلاك القرار لا يستطيع إدراك واقعه الاجتماعي والسياسي فتُسيره وفق إدراكها هي وتصورها للأمور والوقائع من منظورها وزاويتها .
التجييش وحشد الأتباع والأنصار تحت التأثير ألمناطقي والعنصري والمذهبي والتفسيرات المحرفة للأحداث التاريخية والتهم الكيدية المنسوبة لذلك أو ذاك وسبغ ذلك بالعاطفة الجياشة التي تقلب الحقائق والوقائع وتحاول تسيرها وسردها وتصيغ مفرداتها مثل ما تريد في محاولة منها لغرس روح الكراهية والحقد ونفي الآخر تحت ذرائع واهية لا يمكن لها أن توقف عجلة التحول والتغيير في الشعوب والمجتمعات، فقرارات الشعوب في التحول يرتكز على وقائع الحاضر وأحلام المستقبل لا إلى مخلفات الماضي والتباكي عليه الذي قد عاشته سابقاً ولا تريد له أن يكون عائقاً لها ويقف حجر عثرة أمام صنع الحاضر وتطلعات المستقبل الذي تنشده الشعوب جمعياً .
م. صفوان الشيباني
العقل وتأثير العاطفة 3066