كان ضمن فرق الموت, جندي بسيط يسير في الطابور كعربة القطارٍ تحكمها المقدمة وتتبعها بقية العربات بتلقائية, لكنه رفض أن يكون عربة قطارٍ معدوم الإرادة، عافت نفسه أن يكون مجرد أداةٍ للقتل، نظر إلى بندقيته، شد قبضته عليها خاط...بها بتعنيفٍ لن أسمح لك أن ترملي زوجة سعيدة بزوجها لن اسمح لك أن تدمعي مقلة طفلٍ، لن ادعك تفطري قلب أمٍ على صغيرها، تباً لك من بندقيةٍ خائنةٍ لشعب ابتاعك لتذودي عن سيادته وتحميه من تغول الفاسدين، ويلك ماذا فعلتي بشعبٍ كريمٍ صبورٍ, أطلتِ عذابه، وبك حُصر الشعب في معاناته يكابد الفقر وينضح مذلةً وهواناً, آهٍ!! آهٍ منك يا غادرة، فعلك عار و حملك عار.
أرخى قبضته قليلاً من عليها, شدته عيناه نحو تلك اليد القابضة، تلك النظرة صوبت تجاهه أصابع الاتهام ارتبك ارتجفت أوصاله تصبب عرقاً من وطأة شعور انتابه اختلط فيه الإحساس بالذنب بأحاسيس العار، تحت تأثير تلك المشاعر قرر أن يغادر إلى منزله
طرق باب المنزل فتحت له زوجته الباب، بادرها بالسلام، ردت عليه ببرود على غير عادتها، وهي التي كانت تستقبله بحرارة المحب وشوق انتظار الحبيب, دخل دون أن يبدى أي استغراب لبرودة الاستقبال، جلس في غرفة المعايشة ولحقت به زوجته ساد الصمت برهة من الزمن، بادرها أين اسعد،قالت له في ساحة الحرية، انتفض قائما، كيف! كيف ابني اسعد في الساحة !! ضرب ناصيته بيده وتنهد،قال لها يعنى لا قدر الله كان ممكن اقتله ببندقيتي !! أنا أقتل ابني، لما يا سعاد تركته يذهب, التفتت الزوجة كلبوة جريحة، قالت له بحرقة مشحونة بزفرات الأسى !! أين أنت عايش يا احمد ؟؟, والله وألف والله ما قدرت اخرج بين النسوان إلا حين ذهب اسعد إلى الساحة, أجهشت بالبكاء وهي تقول له قبل ذهابه كنت في نظرهن زوجة قاتل الشباب!! أيوه زوجة قاتل !! فبعد استشهاد بن جارنا لم استطع مغادرة البيت، اختلطت كلماتها بحشرجات الألم!! وهي تقول خنقوني بنظراتهم يا احمد !! خنقوني بنظراتهم وأنت السبب، جثت على ركبتيها مطأطئة رأسها !! أنت لا تعلم كم كنت ابكي، وأتعذب حين اسمعهم يقولون الجيش العائلي رعى الله تلك الأيام التي كنت افتخر بك وببندقيتك، أما اليوم أصبحت أنت وبندقيتك عار يطاردني أينما ذهبت، جث احمد قربها ! قال لها وهو يمسح الدمع من جبينها، لا يا سعاد أنت تعرفين زوجك كم تعرفين نفسك، عافت نفسي من أفعالهم، وبما صنعوا بنا، آه يا سعاد لو تعلمون ما حل بنا !! لم نعد الجيش الذي تعرفونه، دق صدره بعنف وهو يقول مزقونا دمرونا قبل ان يدمروا البلاد يا سعاد, أين ذهب جيش الجنوب ابتلعته عائلة صالح وشتتت كوادره وخبراءه، أدخلونا في مؤامرة صعدة من اجل الإجهاز على الجيش، فلا يدخل معسكر معارك صعدة حتى يخرج منها مكسور الجناح مدمر المعنويات بفعل التأمر وضربات الخيانة، ثم يُقسم المعسكر ويُوزع وحدات في معسكرات أخرى بما يخدم مشروع التوريث. أردف قائلاً وقد اختلط بكاءهما معا، قاتلنا في صعده بأسلحة من عهد المصريين والأسلحة الحديثة مكدسة في مخازنهم فأصبحنا نقتل ولا نقاتل، المعسكرات التي لم يصلوا إليها حولوها إلى أشبه بمخيمات اللاجئين بإهمالها والتضييق عليها، آه آه يا سعاد يدربون المرتزقة في مياديننا ويمنحونهم السلاح والذخيرة ليقتلوننا باسم القاعدة وبسلاحنا، كل يوم يحصدوننا بخياناتهم وتأمرهم ونحن القاتل والمقتول، نباع لتنظيم القاعدة ولغير القاعدة، وكأننا خشبٌ أو بعض أنعامٍ تساق إلى الجزار ولا بواكي لنا، نحن أكثر من استبيحت دمائهم من قبل العائلة !! نعم نحن الجيش اليمني تاجروا بنا دمروا سمعتنا، معك حق يا سعاد أنا عارٌ وبندقيتي عارٌ لأنني وهي لم نستطيع كبح جموح عائلة صالح لم نستطيع حماية أنفسنا فكيف سنحمي اليمن جهلونا واستغلوا جهلنا للقانون وانحرفوا بولائنا !!عمقوا الجهل فينا !!غرسوا الولاء للعائلة بدل الوطن، حتى أمسينا نحن الجلاد ونحن الضحية.
ساد الصمت في المكان، نهض أحمد وقال يا سعاد لن أحمل هذه البندقية إلى حين يكون زنادها مصوب نحو أعداء الشعب حينها سأعود إلى الجيش حين يعود الجيش إلى حضن اليمن!، أما ألان فسأبحث لي عن عمل نقتات منه، ومنه نبعث مصاريف لولدنا الثائر أسعد.
مرت الأيام واحمد لم يجد عملاً بعث إلى أحد أصدقاءه يطلب منه ثمن عربية ليبيع عليها الخضار، لكن صديقه لم يسعفه، ولم يستجيب إلى طلبه، لأنه لم يكن يملك ثمن العربية.
دخلت سعاد إلى عرفة المعايشة كان أحمد هناك يجلس وقد ضم ركبتيه ولفهما بيديه ودس رأسه بين فخذيه, نادته سعاد:احمد.. احمد، رفع رأسه وبدا بوجهٍ ينضح بالكآبة وقال لها: أعرف ما ستقولين، لم يعد في البيت شيء من الطعام وليس معنا ما نشترى به طعاماً, وكل احتياجات المطبخ نفذت، ابتسمت سعاد وهي تقترب منه، قالت له لا عليك إن الله لن ينسانا ما دمنا على الحق، أتعرف يا احمد جارنا أبو الشهيد أرسل لنا بعض الطعام حين عرف قصتك وأمي اتصلت بي تريدني أن اذهب إليها لأخذ ما يلزمنا من مؤنة من عندها، رد بهمهمات ثم أفصح بقوله: بصبر الآباء والأمهات وصمود الأبناء في الساحات وحنكة الشرفاء في كل ميادين العمل سوف تنتصر اليمن.
صادق العامري
مواقف في الخفاء 1844