;
أ.د. محمد احمد السعيدي
أ.د. محمد احمد السعيدي

إجراءات عاجلة..لإصلاح السياسة النقدية والمالية 2162

2012-03-14 05:44:43


طالما نبهنا في السنوات الماضية إلى خطورة المنحى الذي يتجه إليه الاقتصاد اليمني وخصوصاً في العشر السنوات الأخيرة من خلال مقابلات صحفية ومقالات وندوات أكدنا حينها على ضرورة اتخاذ إجراءات فاعلة لإصلاح الاقتصاد الوطني وكبح جماح الفساد ولكن لا حياة لمن تنادي.. ولكننا اليوم في بداية عصر جديد نتطلع إلى أن يكون عصر إنصاف الشعب اليمني وانتشاله من حالة البؤس التي أوصلوه إليها وهو أمر لن يتم بدون المساهمة الفاعلة من الجميع وأملنا كبير أن نجد آذاناً صاغية.                  
وفي الدراسة الأخيرة قد بينت باختصار كيف أن الاقتصاد اليمني صار أكبر ضحايا الفساد .
حيث أن اليمن رغم أنها صارت تمتلك العديد من الكفاءات واليد العاملة الماهرة بالمقارنة مع الماضي، كما أنها أصبحت منتجة للنفط والغاز إلا أن الفساد وصل إلى حد أعاد اقتصادها إلى حالة من التردي جعل ترتيبها بالنسبة لدول العالم يتراجع عما كان عليه قبل ثورة 26سبتمبر عام 1962م ، بحسب مؤشر التنمية البشرية لبرنامج الأمم المتحدة .    
ما نرمي إليه في هذه الدراسة هو إلقاء الضوء على جوانب أخرى مكملة وصولاً إلى إجراءات عاجلة مطلوب من حكومة الوفاق الوطني اتخاذها لوقف النزيف الذي يعاني منه الاقتصاد اليمني ويعيد الأمور إلى نصابها وتحقيق الاستقرار، تمهيداً للانطلاق نحو تنمية مستدامة وبأسرع وتيرة ممكنة.
فالمتتبع عندما يسمع أن حكومة ما تبيع أذون الخزانة وترفع سعر الفائدة يتوقع أنها تعمل على تقليل عرض النقود وسحبها من المستهلكين العاديين بغرض تخفيض الضغوط الاستهلاكية وبالتالي تحافظ على سعر صرف مستقر بتخفيض الضغوط عليه وهو بدوره يؤدي إلى تشجيع الاستثمار، ولكن الحقيقة في اليمن لا تقترب من هذا المنطق من أي ناحية .
فقد ظلوا يطبعون نقوداً بكل ما يمتلكون من قوة حتى وصل العرض النقدي في أكتوبر سنة  2011 إلى حوالي ( 2215 ) مليار ريال منها حوالي ( 963 ـ 1000 ) مليار ريال نقود مطبوعة ( cash ) بالمقارنة مع (201 ) مائتين وواحد مليار في عام 2000 . . . ماذا يعني ذلك ؟.
هذا يعني أن الحكومة في التسع السنوات الأخيرة طبعت خمسة أضعاف النقود التي طبعت في إحدى عشر سنة قبلها منذ قيام دولة الوحدة عام 1990 رغم الفارق ( حيث أن الإحدى عشر السنة الأولى تم فيها بناء دولة جديدة تحتاج لطبع النقود ومرت بحرب طاحنة باهظة التكاليف ) كما يوضح بجلاء مقاصد النظام السابق ويبين عدم مصداقيته .
إذ كيف يمكن أن نطبع هذا الكم الهائل من النقود ثم ندعي أننا نبيع أذون الخزينة لنقلل من العرض النقدي، إن ذلك كمن يوجه أنبوباً بقطر عشرين هنش إلى خزان ماء ويسحب من ذات الخزان باستخدام أنبوب بقطر نصف هنش ثم يشتكي عندما يرى فيضان الماء من الخزان يجرف كل شيء أمامه، فأقرب تفسير لما يحدث لن يخرج عن كون الحكومة تطبع النقود لتصب هذه النقود في جيوب فئة مترفة بالمجتمع بأشكال مختلفة!!! ثم تعود وتقترضها منهم بأسعار فائدة عالية جداً لتزيدهم غنى على حساب إفقار خزينة الدولة، وكل هذه الأعباء يتحملها في النهاية المواطن الفقير .                                            
والأغرب من ذلك أن أذون الخزينة والتي يفترض بيعها للمستهلكين الأفراد بغرض امتصاص السيولة منهم، لأنها لو بقيت لديهم ستصرف في الاستهلاك ( نظراً لضآلة الأموال التي بحوزتهم ولنقص الخبرة الاستثمارية لديهم) والذي يعني الاستيراد وهو أمر يزيد الضغط على العملة الصعبة ويزيد من قيمتها.. أذون الخزانة هذه بدلاً من أن تؤدي هذه الوظيفة الحيوية جردوها من ميزاتها وحولوها إلى سرطان ينهش في جسم الاقتصاد الوطني .
فبالرجوع إلى البيانات الصادرة عن البنك المركزي نجد أن البنوك قد استحوذت على أذون الخزانة، حيث ارتفع نصيب البنوك في أذون الخزانة من 15% في عام 2003 إلى 87% في نوفمبر الماضي، أما النسبة المتبقية وهي 13% فقد ذهبت أغلبها لمؤسسات وشركات يفترض بها أن تستثمر أموالها بدلاً من أن تكون عالة على المجتمع منها (مؤسسات التأمين) .
والحقيقة أنني أمام هذا الهول أقف عاجزاً عن اختيار التعبير المناسب وسأترك للقارئ الكريم تقدير ما يراه، فأدوات السياسة النقدية يفترض بها سحب النقود من القطاع الاستهلاكي بشكل عادل عبر عدة حوافز منها بيعهم أذون خزانة بسعر فائدة مجد وهو يؤدي إلى السيطرة على التضخم وبالتالي استقرار أسعار السلع والخدمات وسعر الصرف وتسهيل أو تحفيز ضخ هذه النقود إلى القطاعات الإنتاجية عبر البنوك وغيرها من مؤسسات التمويل وبفوائد معقولة تشجع الاستثمار، نجد أنها في بلادنا تعمل العكس تماماً فقد رفعوا الفوائد إلى معدلات تجعل الاستثمار مستحيلاً وسحبوا الأموال من البنوك والمؤسسات التي يفترض بها أن تصب في الاستثمار الذي يعد الطريق الوحيد لتشغيل اليد العاملة وبناء اقتصاد قوي يوفر العيش الكريم .    
باختصار لقد ظل المشهد يتكرر على نفس الوتيرة خلال العشر السنوات الأخيرة مزيداً من طبع النقود أو إغراق السوق بالنقود ،يؤدي إلى رفع سعر صرف العملات الأجنبية والذي يؤدي بالطبع إلى رفع أسعار السلع والخدمات ،فتزداد معدلات التضخم فيخفضوا سعر الصرف لفترة ولا يعملون شيئاً يذكر لتخفيض الأسعار إلى ما كانت عليه قبل ذلك, ثم يرفعون سعر الصرف من جديد و إلخ .وفي كل مرة تجني مؤسسة الفساد أموالاً طائلة والنتيجة تفاقم معدلات التضخم وتزعزع الثقة بالاقتصاد اليمن فيزيد الفقير فقراً والغني غنى ، وأما بيئة الاستثمار فحدث ولا حرج ، وأكثر من ذلك، فمع الزمن أخذت الطبقة الوسطى بالتلاشي ونمت طبقة من المترفين الذين حصلوا على أموال طائلة تتعاظم بشكل كبير بدون أي جهد يذكر من قبلهم  .
إصلاح عاجل للسياسة النقدية والمالية:                
مما سبق واستناداً للوضع الراهن أضع بين يدي حكومة الوفاق الوطني الجديدة على عجل المقترحات التالية كدفعة أولى:
1ـ الإيقاف الفوري لبيع أذون خزانة للبنوك والمؤسسات والشركات القادرة على الاستثمار وعمل خطة لاستعادة ما تم بيعه لهم بشكل متدرج وبأسرع ما يمكن ، بما لا يترك آثار سلبية على تلك البنوك.
2ـ عمل دراسة لإمكانات الإيقاف النهائي لسياسة بيع أذون خزانة إلا في حالة احتياجها لمشاريع استثمارية تقوم بها الحكومة أو لتمويل نصيب الحكومة في الاستثمارات المختلفة والتي أتوقع أن تتزايد في المستقبل القريب .
3ـ باعتبار أن رفع سعر الفائدة وبيع أذون خزانة الغرض منها امتصاص السيولة من المستهلكين وباعتبار الاقتصاد الوطني قد مر بالسنوات الأخيرة بحالة إفقار شديد للطبقات الوسطى والدنيا فإن المال قد سحب من (65-70 )% من الشعب لصالح الفساد بحسب الإحصاءات الدولية كما رأينا وأكبر دليل على ذلك أن البنوك والشركات والمؤسسات هي التي أصبحت المشتري الوحيد لأذون الخزانة، فلم نعد بحاجة إلى استمرار هذه السياسة، بل العكس صار من الملح أن نوفر عملاً لتشغيل العاطلين وذلك يتأتى بتخفيض سعر الفائدة إلى الحد الذي يشجع ويحفز الاستثمار .
ويفضل أن يستخدم البنك المركزي بقيه أدوات السياسة النقدية كسعر الخصم والاحتياطي الإلزامي للبنوك للدفع بهذا الاتجاه.. طبعاً يتم هذا الإجراء بالتزامن مع خطة استثمارية فاعلة .
4ـ تثبيت سعر الصرف عند (240 ) أو (250) ريالاً للدولار ، لأن سعر الدولار قد ظل لفترة طويلة من حوالي عام يتراوح قريب من هذه الحدود وقد ترتب على ذلك ارتفاع أسعار السلع والخدمات بنسب أكبر بكثير من هذا المعدل وتخفيض سعر الصرف في الوقت الراهن لن يقود إلى إعادة أسعار السلع والخدمات إلى حالتها السابقة، بل ستظل مرتفعة وستترك فرصاً لمنظومة الفساد لتستمر كما درجت عليه  باستغلال سعر الصرف لإفقار الشعب أكثر وأكثر حيث سرعان ما سيرفعون سعر الصرف فيرفعوا معه الأسعار من جديد، فالظرف الآن مناسب والقوه الشرائية في حدودها الدنيا .
5ـ دفع البنوك لتشجيع الاستثمار عبر تمويل المشاريع الاستثمارية باستخدام أدوات السياسة النقدية كما أسلفنا بالإضافة إلى اتخاذ إجراءات التزامية من قبل البنك المركزي كأن تضعها ضمن معايير تقييم أداء البنوك .
كما يجب دفع البنوك إلى توسيع قاعدة المشاريع التي تمولها، لأن المصارف اليمنية تقصر تسهيلاتها لجهات معينة وتتجنب المغامرة خاصة أن السماح لها بالاعتماد على أذون الخزانة لفترة طويلة قد أضعف من قدرات الإدارات المختصة فيها بتقييم المشاريع .
6- العمل على إيقاف طبع النقود وفق دراسة متكاملة للاقتصاد الوطني وبموافقة مجلس الوزراء.
7 – وإذا ما عرجنا على السياسة المالية فما يمكن عمله بشكل عاجل في الوقت الراهن هو إيقاف المصروفات غير الضرورية وأهمها إيقاف استيراد السلاح وغيرها من الاعتماد الوهمية التي غذت نظام الفساد؟.
8 - كما يجب الإسراع بتخفيض أسعار المشتقات النفطية مع رفع الدعم نهائياً عنها.
فلن تمر فرصة أفضل من هذه لأن أسعار المشتقات النفطية قد ارتفعت في السوق المحلية إلى معدلات عالية بل خيالية منذ بدء الثورة الشعبية السلمية ، ورفعت معها أسعار كل السلع والخدمات ، وان إعادة تخفيض أسعار المشتقات النفطية إلى ما كان عليه قبل الثورة لن يؤدي إلى تخفيض أسعار السلع والخدمات إلا بنسبة ضئيلة ( وقد سبق أن أوضحنا هذه الفكرة في دراسة سابقة ) على أن يترافق هذا الإجراء مع إجراءات مصا حبة تلزم التجار ومتعهدي النقل وملاك وسائل الإنتاج الزراعي بتخفيض الأسعار بنفس النسبة.                                  
مع مراعاة استخدام جزء من فائض السعر لصندوق دعم الزراعة بحيث يظهر مباشرة في شكل زيادة في إنتاجية القطاع الزراعي وجزء يوجه عبر وزارة الشؤون الاجتماعية لدعم الفقراء وجزء ثالث لدعم تمويل المشاريع الأصغر لخلق وظائف جديدة للعاطلين عن العمل .
ملاحظة:                                                                                                                                                                                                                                                                                                                  بعد الانتهاء من كتابة هذه الورقة المتواضعة بلغني أن سعر صرف الدولار قد انخفض من المعدل الذي كان يتراوح بين ( 235-244) إلى ( 218) ريالاً ثم ارتفع إلى(222) ريالاً مؤخراً، .بينما أسعار السلع والخدمات في تصاعد مستمر، وهذا أمر في غاية الخطورة، إذ انه فضلاً عن كونه عامل تخريب للاقتصاد الوطني ويفاقم الأعباء على كاهل الفقراء والطبقة الوسطى والمستثمرين كما أسلفنا فإنه يساعد منظومة الفساد على تهريب الأموال إلى الخارج بأرخص ما يمكن.
ونحن إذ نهنئ فخامة الأخ الرئيس عبد ربه منصور هادي بهذه الثقة الغير مسبوقة.. نناشده أن يجعل الاقتصاد أهم أولوياته, باعتبار أن الاقتصاد يعد المحرك الأساس للمدنية الحديثة، ولأن الشعب الذي قدم كل هذه التضحيات التي أذهلت العالم يستحق أن يعيش حياة كريمة في أرضه.
*أستاذ الاقتصاد في الإمارات العربية المتحدة.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2024-11-29 03:22:14

نوفمبر المتجدد

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد