لم يكن الكثيرون من البشر يعتقدون ولم يكن أحد منهم يتوقع بأنه بالإمكان ملاحظة أو مشاهدة ظاهرة صناعة التاريخ بمختلف عناصرها (بزمانها ومكانها وأشخاصها وموضوعها...الخ), حتى هذه الثورة الشبابية العربية التي كشفت إمكانية ذلك والتي بها وفيها تتجلى صناعة التاريخ بأوضح صوره وبمختلف صفحاته , وهذا ما يؤكده التاريخ نفسه وتؤكده هذه الثورة بأن التاريخ العريق بأعظم صفحاته وقمته وكذلك التاريخ السوداوي أو أدنى وأردى صفحات التاريخ بأن كلاهما يصنعان معاً بأوضح صورة وأكثر أثراً في إطار الثورات وبالأخص في ثورات التغيير الخالدة وهي تلك الثورات التي تحقق النهضة وتشيد الحضارة المزدهرة , والتي تأخذ بُعدين أو مضمونين متلازمين، هما المعرفة والدولة المدنية، أي ثورة المعرفة وعلى رأسها الثورة التي تحقق للإنسان أصل المعرفة التي بها يعرف حقيقته والمعنى من وجوده وتسعى بالتالي نحو إقامة الدولة المدنية بمضمونها وأسسها الأصيلة والمتوافقة مع دين الفطرة الحنيف ومع الفطرة الإنسانية والتي يحقق الإنسان في ظلها الحرية والحياة الكريمة ويثبت وجوده ويضمن مصيره , وفي ظل هذه الثورات يصنع التاريخ وعملية صناعته ملازمة للثورة منذ بدايتها وحتى نهايتها وما بعدها أنها حاضنته وتوأمه , وهو ما يؤكد بأن ثورات التغيير هي مصنع التاريخ والحاضر والمستقبل , كما لا يمكن أن يستثنى من صنع التاريخ أحد من أطراف ومعاصري ثورات التغيير الخالدة شاء أم أبى ولكن للكل حرية الاختيار فيها إما أن يصنع تاريخ وبالتالي حاضر ومستقبل عريق أو سوداوي , وهذا ما هو جلي في ظل ظاهرة ثورة الشباب العربي , التي لن يستثنى من ذلك أحد , ويأتي إكليل صناعة التاريخ أولها وملازم لها وآخر ما تتكلل به كما هو الحال في عامها الأول ومن معالم ما تجسد ويتجلى بها من عملية صناعة التاريخ فيها وتكليلها به على مختلف الأطراف والمستويات - والتي تؤكد التحليل السابق – ما يلي :
-   الثورة تصنع التاريخ العريق : وهو ما تجسد ويتجلى في ساحات الثورة بأرواح الشهداء
وبأيدي الشباب الثائر المرابط , ومن يريد أن يشاهد كيف يصنع التاريخ العريق ومجد وحضارة الحاضر والمستقبل، فعليه أن ينظر إلى ساحات الثورة الشبابية العربية اليوم وما تصنعه بشبابها الثائر المرابط في ساحاتها -أفراداً وجماعات- وبوسائلها السلمية الحضارية من تاريخ عريق أن ثبتت على السبيل الحق أو من تاريخ قاتم -لا سمح الله- إن انحرفت عن هذا السبيل .
 
-   التاريخ الذي تصنعه الأنظمة ومؤيدوها : كذلك الأنظمة الحاكمة ومؤيدوها تصنع تاريخها في هذه الثورة، منها تصنع تاريخ عريق وهي تلك التي قبلت وتقبل وتعمل بإخلاص من أجل التغيير الايجابي في المعرفة وفي إقامة الدولة المدنية والمضي نحو تحقيق الحرية والحياة الكريمة لها ولشعوبها ثائرة وغير ثائرة , ومنها تصنع تاريخاً أسوداً أحرقت به ماضيها وحاضرها ومستقبلها وهي تلك الأنظمة القمعية وعلى رأسها النظام الليبي البائد الذي كشف زيف ادعائه بقيادة ثورة وجماهيرية وخسر حاضره ومصيره , وأيضاً النظام السوري القمعي الذي كشف زيف ادعاءاته بوحدة قومية وبمقاومة ( القولية ) للمحتل وأظهر حقيقته الطائفية القمعية السوداوية، بل وكشف عما يعانيه من عقدة نقص وذل وعجز عن مواجهة المحتل لأرضه أو تحرير شبر من أرضه المحتلة، كشف عن حقيقة حالته هذه بتوجيه كل آلته العسكرية القمعية بكل حقد وإجرام لسفك دماء شعبه وشبابه لمجرد مطالبتهم بحقهم المشروع والمغتصب منه , كما أظهر إفلاساً مخزياً ومعيباً بادعائه بأن الثورة وبأن مطالبات حماية الشعب السوري من عدوانه وبغيه بأنها مؤامرة , بل ويطالب بعض رموزه دون وعي ووجل الآخرين بالضغط على مجلس الأمن من أجل تحرير أرضه من المحتل الصهيوني , ولا يدرك بأن النظام والجيش السوري هو وحده المسؤول عن تحرير أرضه، كما لا يدرك بأن الوقوف ضد إرادة الشعب في بناء دولته وحريته وكرامته هو أكبر مؤامرة وبأن ذبح الشعب بجيش ومقدرات الشعب في الوقت الذي عجز هذا النظام والجيش من تحرير أرضه المحتلة منذ قرابة نصف قرن هو أكبر جريمة وخيانة , وهو بذلك يسطر حتى الآن صفحات تاريخه كأسوأ نظام وأسوأ جيش في تاريخ سوريا وتاريخ الأمة العربية والإسلامية وربما الإنسانية , ويمضي نحو نهايته , وحجزه لموقعه في صفحات ونهايات أمثاله كنظام وإجرام وبغي يزيد بن معاوية , وما بين المستويين تصنع أنظمة عربية أخرى تاريخها إما عريق أو سوداوي .