مرات كثيرة يبحث فيها المرء عن شيء مما يريده في الحياة.. ويسعى للتعبير عنه ولكن لا يستطيع أن يعرف إلى أين تقوده قدماه وماذا تجلب له خطواته تلك من مواقف وحِكَم وأمور مؤثرة ترافقه أينما ذهب، وهذه بداية كلماتي التي أصوغها لكم أحبتي، عبر هذه السطور القليلة.. أتمنى أن تكون ذات صدى وفائدة وعبرة لمن لازال لديه قلب ينبض بالحياة.. أحبتي أكتب إليكم أتدرون من أين؟! إنني أكتب كلمتي هذه من مدرستي الجديدة وأنا هنا في عزلة وبُعد تام عن كل الناس الأسوياء إلا القليل منهم..
ما إن وطأت قدماي باب تلك "المدرسة" وألقيتُ على تلك الوجوه نظرة عامة، كدت لا أسترجعها إلا مبللة بالدموع، حينما تلفّت حولي ورأيت وتعلمت في هذه الأيام القلائل ما تعلمته طيلة سنواتٍ وسنواتٍ مضت.
تذكرت كل ما أنا فيه من نعم الله التي لا تحصى ولا تعد ولازلت إنسانه متذمرة تشكو وتتأوة إن مرت بي ساعة ألم أو حادثة أو مصبية الخ وأمثالي كثير، وقد نسينا أو تناسينا غيرنا ممن لا ينام الليل، أضناه السهاد طيلة ليله من شدة الألم وهناك في تلك المدرسة أتدرون ما هي؟! إنه أحد مستشفيات العاصمة صنعاء "قسم نساء" تلك هي مدرستي الجديدة..
هناك وجدت أختاً فقدت الاعتماد على نفسها وأصبحت معتمدة في كل شيء حتى أدق الخصوصات حتى أنني تمنيت من الله أن يكرمني ويعزني بموتي قبل هواني على الناس..
إنني إنسانه مؤمنة ولكن زاد إيماني بالله ملايين المرات بما رأيت وسمعت وتلمست عن قرب في هذا "المستشفى" صدقوني أحبتي أن أكبر جاحد لنعم الله عليه عند ما يحضر إلى هذا المكان سيتحول إلى رحمة واسعة وإيمان ليس له مثيل.
أحبتي.. إن حياتنا جميلة جداً رغم مصادفة بعض الصعوبات، فالحياة لا تحلو إلا بها ولكن اجعلوا منها حياة أحلى وأجمل بتلمس هموم ومعاناة الغير ومصائبهم فما أجمل تلك اليد الحانية عندما تمسح دمعة ذرفتها الآلام والهموم.
هناك شر، لكن الخير هو السائد دوماً، ففي الحياة أناس قلوبهم قاسية كما الحجر أو أشد قسوة ولكن فيهم الرحماء، فالحياة على النقيضين تذهب بنا وتجيئ ولكن أين رحمة هؤلاء من رحمة رب العباد الذي وسعه كل شيء من أنس.. حيوان..
غيرهم أحبتي الكرام.. لن أستطيع وصف شوقي في إيصال الكلمات إليكم لعلها تعالج جروحاً وآلاماً تضاعف كل يوم، فشوقي إليكم متناثر بين وريقاتي هنا أرسله إليكم حباً صادقاً حيث اغترفتها من صدر تلك الأم الحنون، تلك الإنسانة العظيمة وستظل عظيمة ولكم نتجاهلها ونتجاهل حقها علينا وهي لا تستحق منا ذلك..
فيها أيها الحاقد على نفسك، لماذا تحرم نفسك حقها يا من طعنتها بعصيانكِ ولازالت ترفع يديها داعيةً لك في غسق الدجى؟ هناك وجدت " أماً" تذرف الدموع كل يوم وتتأوة وعندما اقتربت منها لإعرف ما بها تلزم الصمت فأعود أدراجي وسرعان ما تعود فلم أستطع حبس دموعي، بكيت معها عندما قلت ما بلك يا أمي هل تريدين مساعدتي فنظرت إلي نظرة تمزق الروح إلى أشلاء وهي تقول "ولدي تركني ولم يسأل عن أنني مريضة، لا أتذكر كم أمكث هنا، لم يكلف خاطره أن يزورني أو يسأل عني "فقلت في نفسي وآحسرتي عليك وعلى أمثالك من الأمهات، فكثير يجهل مكانتك وقدرك العالي ولكن ما إن يقدر الله الأجل وتموت إحداكن وتضيق الأرض بهم بما رحبت يتمنون لو تعود ويقبل الأرض التي تمشي عليها ولكن هيهات؟ لم يكن هذا هو الدرس الوحيد.
فهناك من فقد حاسة أو عضواً من أعضائه وهو في أمس الحاجة إليه وعند فقدها يتمنى لو تعود ويدفع الغالي والنفيس من أجل ذلك ونحن نملك الكثير ولازلنا نتذمر ولا نشكر.
نحن في نعيم عظيم يحسدنا عليه من فقد تلك النعم الكثيرة والعظيمة وتكفينا أحبتي أننا نعبد الله دون أن يكون هناك عائق يحول بيننا وبينه.. مفاتيح السعادة والرضا بين أيدينا "فاشكروا لي ولا تكفرون" هذا ما قاله رب العباد فهناك من فقد أشياء كثيرة لكنه يؤجر عليها فحتى الشوكة يشاكها له فيها أجر.
آه لو تعلمون كم هانت علي الحياة عندما رأيتُ "أم علي" من هشم زوجها ظهرها بالطوب "البُلكُ" وأصبحت فاقدة لجميع الأعصاب مما سبب لها فقدان السيطرة على كل شيء حتى عملية "الاخراج" فأصبحت لا تشعر ولا تحس بما يحدث لها جراء ذلك وهي مقعدة.. ومنهن من فقدت رجليها وأصبحت لا تمشي إلا على كرسي متحرك ومنهن من فقدت الأعصاب الحية لرجليها فأصبحت محل تجارب عملية تلو الأخرى حتى صارت في العملية 17 إن لم تكن أكثر ولازال لديها أمل الشفاء.
ومنهن من كانت تبني الأحلام بأن تتزوج، تلبس الأبيض وفي ساعة غفلة وجهل تسقط من رأس جبل ذهبت لتجلب الماء فسقطت وتشهم عمودها الفقري وأصبحت لا تقوى على الحراك وتخلى عنها خطيبها الشهم فأصبحت وحيدة أحزانها المؤلمة.. هل أنتم معي أن هناك مآساة.
آه لو تعلمون كم هناك من أحاديث وقصص تدمي القلب وكم تعلمت طيلة تلك الأيام القلائل في مرافقتي لإحدى قريباتي.. ولا أنسى روح المرح المولود من ألم متراكم كانت تلك "أم محمد" فقد كنا نجتمع كل مساء حتى تقص علينا أفراحها وأحزانها بروح الدعابة وتدندن بكلماتٍ جميلة تقول إنها قصائد، شعرنا لوهلة بالفرح وهي تقول كلماتها فقد أخرجتنا من جو المآساة.. ومن كلماتها: يا من يراني قال سلي وناقح.. والقلب من داخل السيس ناجح.. يا من يراني قال أنا سليه.. والوجع
والكبد والشوية.. لا تنقدوني ليش وجهي أسود.. هذا الوجيه أما القليب قد أدود.. خلوني أسرح لي قد ضاق حالي.. لامرجحه ولا قليب سالي.
ولا ننكر جهود جبارة لخدمة المرضى من قبل الدكاترة والممرضات الذين يستحقون كل الحب والشكر والعرفان..
أحبتي..
كلماتي إليكم ألم ومعاناة، حباً وكرامة لأصحابه ولم أقصد بكلماتي جرح أحد بقدر شوقي إلى الأمل القادم نحو تلك النفوس من شباب اليمن الطيبين.
أحبتي..
إننا أنا وأنتم مهما شكرنا الله فلن نوفيه حقه من تقصيرنا الدائم ولا أنسى قول الشاعر الحكيم حين قال:" أيها الشاكي وما بك داءً..كيف تغدو إذا غدوت عليلاً؟
ربِ عفوك هو جُل اهتمامنا.. ورضاك غاية رغبتنا
لا تحرمنا من تكرمك.. علينا تفضلاً منك ومِنه".
فاطمة العمري
علمتني المعاناة 2322