من السذاجة الاعتقاد أن الثورة في اليمن قد حققت أهدافها بتوقيع علي عبدالله صالح على اتفاقية «نقل السلطة» التي تُعرف بالمبادرة الخليجية، وبخاصة أن عملية التوقيع والسرعة التي تمت بها ناهيك عن المناورات التي رافقت عملية التعمِية المقصودة في شأن مكان التوقيع والارتفاع المفاجئ في نسبة التفاؤل التي ضخّها المبعوث الدولي جمال بن عمر لتمديد بقائه في صنعاء بعد أن كان عزم الرحيل عنها إثر رفض نائب الرئيس الجنرال عبد ربه منصور هادي التوقيع على المبادرة بذريعة انه مخوّل فقط التوقيع أي حال غياب الرئيس وحيث أن الرئيس «متوفر» فهو لا يملك مثل هذه الصلاحية..

نقول: جملة الوقائع الملتبسة هذه، إضافة إلى ما كان العقيد الهارب (أو المُهرّب وهي الأصح) قد هدد به قبل أربع وعشرين ساعة من هذا التطور الدراماتيكي بأنه إذا ما أراد الاستجابة لطلب المعارضة بالتنحي فإنه سيسلّمها إلى الجيش، تدفع للاعتقاد ان الأمور كانت تُطبخ في مكان آخر وان انضاجها جرى في سرعة لكسب المزيد من الوقت بعد أن لم تعد مُقْنِعة تلك المبررات والذرائع التي يقف خلفها «حُماة» صالح والموفرون له المظلة الواقية التي واظب خلالها على عملية شراء الوقت ومحاولة تفتيت صفوف المعارضة ودب اليأس في صفوفهم مراهناً على تبعثرهم وانقسامهم كما كان «الحُماة» الإقليميون والدوليون يبذلون جهوداً مضاعفة في محاولة لايجاد البديل المضمون لعلي صالح، القادر على تأمين مصالح هؤلاء والرافض للاعتراف بحق المعارضة في ممارسة دورها الوطني في حرية وفي الأساس في التنافس على الوصول الى السلطة عبر صناديق الاقتراع بعيداً عن حكم العائلة والاصهار ورعاية الفساد ونهب الثروة الوطنية الذي غدا ممأسساً في ذلك البلد الذي مزّقته سياسات صالح وبطانته الفاسدة، افقياً وعامودياً على نحو تعكسه نسبة البطالة المرتفعة والاعداد الهائلة المفقّرين من غالبية الشعب اليمني المصحوبة بانهيار الخدمات والبنى التحتية والإدارة العامة.

«قصة» علي عبدالله صالح الحقيقية لم تُروَ بعد، فثمة قُطَبٌ (وليس قطبة واحدة) مخفية، وربما تُساعد وقائع الأشهر التسعة التي انقضت على الثورة السلمية الرائعة والباعثة على الاعجاب التي قام بها اليمنيون واهمها في عدم انزلاقهم إلى «عسكرة» الثورة رغم كل الاستفزازات وعمليات القتل المنظم الذي يرتقي إلى جريمة حرب ضد الانسانية وبخاصة في شأن «اغراء» السلاح المتوافر بكثرة - ومن كل الأنواع - في أيدي اليمنيين.

ولنبدأ منذ اللحظة التي طرحت فيها المبادرة الخليجية بما هي اشارة ذات مغزى من ان الملف اليمني قد باتت معالجته في يد مجلس التعاون الخليجي وقد سلّم الآخرون بذلك، الأمر الذي أدّى في النهاية، الاستجابة او الخضوع لمراوغة صالح ومطالبه التي لا تنتهي بإدخال تعديلات على تلك المبادرة على نحو لم تعد فيه مقبولة على الثوار الى ان انتهت بالطبع الى «تبرئة» صالح من كل الارتكابات التي قارفها طوال ثلاثة عقود ونيف ناهيك عن جرائمه بحق الثوار منذ تسعة اشهر.. دون ان ننسى ان القرار 2014 صدر عن مجلس الأمن قبل شهر من الآن (21/10) يدعو فيه «صالحاً» الى التوقيع على اتفاقية نقل السلطة، لكنه راوغ وماطل وسوّف وكان له في النهاية ما اراد..

هي اذاً عملية تهريب لديكتاتور فاسد سفك دماء الابرياء وأفسد الحياة السياسية والحزبية وانتهك حقوق الانسان وعمل بلا كلل على تمزيق النسيج الوطني عبر حروب داخلية لا تنتهي وتسفيه مفهوم وقيم، توحيد شطري اليمن على نحو لم يجد فيه اهالي الشطر الجنوبي فائدة او رغبة او مصلحة في وحدة كهذا تضعهم في مرتبة ثانية أمام أهالي الشمال، وفق سياسة مدروسة تزيد من الاحتقان والفرقة ودائماً في الانتقاص من سيادة بلده وارتهانها لمصالح الاميركيين في حربهم المزعومة على الارهاب.

ليس مفاجئاً إذاً أن «تهريبة» صالح قد ضمنت له ثلاثة اشهر كي يبقى رئيساً «شرفياً» ليُعهد الى نائبه تشكيل حكومة وحدة وطنية وادارة مرحلة انتقالية يتم خلالها الشروع في حوار من اجل حل مشكلات اليمن المعقدة، ونحسب ان الحكومة العتيدة لن تُشكّل بسهولة كما انها لن تكون حكومة وحدة وطنية، ولن يكتب للحوار المنتظر... النجاح، لأن اساس نجاحه هو جلب صالح إلى المحاكمة كي يدفع ثمن ارتكاباته وهو مطلب الثوار الذي نحسب انه، هو الآخر، لن يتحقق لأن هناك «شبكة حماية» قد تم توفيرها للعقيد الهارب للعلاج، عند الذين «اتهمهم» بأنهم يديرون غرفة عمليات في تل ابيب (..) ضده، وها هو يَحُل.. ضيفاً عزيزاً عليهم جراء ما قدمه لهم من خدمات..

انتظروا فـ»البديل».. قيد الإعداد!

الرأي الأردنية