لا أظن أن أحداً في اليمن أو خارجه بمن فيهم «الرئيس» نفسه سيصدق ما قاله علي عبدالله صالح من عزمه التنحي عن السلطة، وتركها للشعب اليمني «في بضعة أيام».
صالح أمضى حياته في السلطة بناء على المراوغة، واصفاً حكم اليمن بأنه رقصٌ على الثعابين، لكن ما لا يعلمه أن الثعابين قد تلدغ صاحبها.
للمرة الألف يقولها صالح إنه عازف عن الحكم، وان الكرسي لا يعني له شيئاً، وان أيامه في التحكم برقاب اليمنيين باتت وشيكة جداً، إلا أن ذلك لم يحدث مطلقاً.
لو كان الرئيس صادقاً لما أوعز إلى أتباعه في مجلس الشورى للتمديد لولايته سنوات أخرى، ولو كان صادقاً لنفذ المبادرة الخليجية التي تحدثت بوضوح عن نقل السلطة، ولو كان صادقاً لآثر اليمن على نفسه حينما عجز جسده عن الحراك، ولو كان صالح صادقاً لما عاد إلى اليمن ليشعل فتيل الأزمة التي كاد لهيبها يخبو لولا عودته غير الميمونة بالنسبة لكثير من أبناء الشعب اليمني.
ولو كان صادقاً أيضاً لأصغى لنداء الملايين، ولنداء مئات الآلاف المرابطين في ساحات التغيير في صنعاء، ولو كان صادقاً لسمع نصائح الشرق والغرب، ولو كان صادقاً لما جعل مبعوث الأمم المتحدة جمال بن عمر يخرج من صنعاء غضبان أسفاً. ولو كان الرئيس صادقاً لما قايض بين استمراره على الكرسي والحرب على الإرهاب.
أي يمنٍ يريد أن يحكمه الرئيس؟ وماذا تبقى من اليمن أصلاً حتى يمتد له سلطانه؟ فشمال اليمن يشهد على حرب ضروس بينه وبين قبائل الحوثيين طوال سنوات، مستخدماً العتاد والسلاح لضرب الحركة الاحتجاجية هناك.
وأي يمنٍ يريد صالح أن يحكمه وجنوبه عقد العزم على الانفصال بسبب سياسات السلطة وتعسفها وتمييزها ضد أبناء الجنوب، حتى أجبر السواد الأعظم من أهل الجنوب ليتخلوا عن خيار الوحدة ويرفعون علماً مغايراً لليمنيين.
وأي يمنٍ يتشبث صالح بحكمه، ومركزه يشهد منذ ستة أشهر خلت صراعاً دموياً، أزهقت فيه آلاف الأرواح البريئة، وأريقت على بساطه آلاف الدماء التي ما كان لها أن تراق لولا عنجهية «الرئيس».
أما إذا أحسنا الظن بصالح هذه المرة - وهو أمرٌ في غاية الصعوبة - وإذا أردنا أن نحمل الرئيس على سبعين محملاً من الخير، فلن يتوارد إلى الأذهان سوى سبب واحد وجيه لقبول صالح الخروج مرغماً، كارهاً لا راغباً عن السلطة، والسبب هو هروبه من مصير غيره من سائر حكام العرب الذين انتهى بهم المطاف في الزنزانات أو الفرار بعيداً عن قبضة شعوبهم.
فصالح - إن صدق الظن - أيقن الآن أن لا مفر من مصير قادم مجهول سوى الخروج من مستنقع اليمن تحت ذريعة العلاج ربما، وما المماطلة الطويلة في التعامل مع كل المبادرات الخليجية والدولية إلا دليلاً على أن صالح يبحث عن غطاء يقيه من الوقوف أمام العدالة مستقبلاً، ومن دون هذا البند فلن يبرح الرجل السلطة.
لو أراد أحدنا مقاربة الوضع في اليمن، فسينظر إلى وطن مقسَّم كل ممزق، فجنوبه ينعى شماله، ووسطه يسبح في الدماء المغمورة، حربٌ بين صالح وحلفائه القدامى، وحرب ثانية من المنشقين من نظامه، وحرب على المرابطين في ساحات التغيير من الشباب والأمهات والآباء، وحرب على المعارضة السياسية المتمثلة في أحزاب اللقاء المشترك.
أما اقتصادياً، حال اليمن لا يسر صديقاً، فتقارير العالم ومنظماته وأذرعه المختلفة تبدي أسفاً على الوضع الاقتصادي المزري... إلى فقر مدقع، ومجاعة قادمة لا محالة، وفساد متفش في طبقة الحكم وزبانية السلطة التي لم يبق جشعهم للملايين من قوت. ووصل الحال باليمن ليطلب الدعم المادي من حكومات ومؤسسات الغرب وأنديته وصناديقه غير الخيرية.
إذا كانت حجة صالح البالغة في رفض مغادرة السلطة هو عدم السماح بتسليمها لخصومه على طبق من ذهب (وان كان الحال هو طبقٌ من جحيم)، فحسناً سيدي، فلتغادر السلطة وسلمها للشعب في استفتاء محدد الأجل، واترك أبناء شعبك يختارون لهم من يشاؤون.
اليمن السعيد أضحى شقياً، ربما إلا من خبر يتيم وهو فوز الشابة توكل كرمان بجائزة نوبل للسلام التي لم تعرف منذ أن أبصرت عيناها النور قبل 33 عاماً رئيساً آخر غير «رجل الحرب والسلام».
إنه من الحكمة أن يترك صالح الحكم لأبناء شعبه، وأن يسد الباب في وجه الطامعين في اليمن. سيدي الرئيس، للمناورة سقف، ولا مناص من الحقيقة وإن طال أمدها.
بلقيس اهتدت إلى الحق وهي في ذروة عنفوان مملكة سبأ قبل ألفي عام من الميلاد، وقد حببها إلى الناس قيامها بترميم سد مأرب الذي كان قد نال منه الزمن وهرم بنيانه وضعفت أوصاله، بينما حاكم سبأ اليوم يأبى إلا أن ينهار سد مأرب على رؤوس اليمنيين من أجل عيون ثلة مستأثرة، رافضاً منطق الحقيقة وسبيل الرشاد بعد ألفي عام من الميلاد.
بلقيس حين جاءها الهدهد على حين غرة مرسلاً من سليمان الحكيم، آلت سيدة العرش إلى الرشد والعقل وتخلت عن صرحها العظيم، واليوم - سيدي الرئيس - قد جاءك الهدهد حاملاً قرابين الدماء من نحور شعبك، حاملاً لك النذير، أن ارحل قبل أن ينعق الغراب
نقلاً عن الوسط البحرينية
حيدر محمد
مملكة سبأ... من الهدهد إلى الغراب 1751