;
أ.د سيف العسلي
أ.د سيف العسلي

الكهرباء وما أدراك ما قصة الكهرباء في اليمن؟! 2521

2011-07-16 02:23:17


ظهرت الكهرباء في اليمن كأعجوبة و لا زالت كذلك حتى الآن، أنني ابلغ من العمر حوالي 55 عاماً و منذ أن وعيت و حتى الآن و أنا اسمع و أقرأ العجائب حول مشكلة الكهرباء في اليمن، لقد تفتق وعي أول ما تفتق على الانبهار بجهاز من الحديد يتكلم (الراديو) بمساعدة الكهرباء. و قبل ذلك كنت اعتقد أن الإنسان هو فقط الذي يتكلم.
وبعد ذلك سمعت عن الكهرباء و لكن بشكل مختلف عندما كان العدني (من يزور مدينة عدن) عندما يعود إلى قريتنا يحكي لنا ويتفنن عن سحر الكهرباء وعن رومانسية السمر في شوارع عدن تحت ضوئها. و مع ذلك فلم استطع أن أتخيل كيف يمكن أن يكون للكهرباء ضوء. و عندما زرت مدينة تعز شاهدت مصابيح الكهرباء لأول مرة و من شدة تعجبي كنت أقارن بينها و بين القمقم ( السراج) و الفانوس و النوارة. و في عام 1974 زرت صنعاء لأول مرة و أضافت قصة الكهرباء إلى تعجبي ذكرى لا تنسى ألا و هي مشاهدة التلفزيون.
إن قصتي مع الكهرباء هي قصة كل الأجيال منذ ذلك الوقت و إلى الآن، فقد ارتبطت قصة الكهرباء في وعي اليمنيين بالسحر و الانبهار و الأساطير، و ربما يفسر ذلك عدم قدرتهم على فهم ما يرتبط بالكهرباء ومشاكلها من الغاز. و لولا ذلك لما صدقوا وعود الحكومات المتكررة بقرب التخلص من الظلام و الاستمتاع بنورها. و لولا ذلك لما صدقوا إعلان حكومتنا بأنها ستحل مشكلة الكهرباء من خلال الطاقة النووية. فإذا كان معظمهم لم يستوعب الكهرباء العادية فكيف يمكن أن يستوعب الكهرباء النووية؟
في هذا المقال سأتعرض قصة الكهرباء و ما ارتبط بها من عجائب خلال العشرين السنة الماضية على الأقل، و في هذا الإطار فاني لن انزلق إلى فخ الأرقام و المصطلحات التي قد لا يفهمها الكثيرون بما فيهم قياديو وزارة الكهرباء و مؤسستها و إنما سأقتصر على ابسط العجائب ذات العلاقة بها.
الأعجوبة الأولى: فعلى الرغم من التقدم الكبير في وسائل الاتصال و المواصلات التي تعتمد على الكهرباء و في الأدوات الكهربائية التي أصبحت جزاء أساسياً من حياة اليمنيين حتى في الأرياف، فلا زالت السلطة تتعامل معها على أنها سلعة أو خدمة كمالية، يجب أن توفر للمتنفذين فقط، و الأكثر استغراباً من ذلك هو أن الرأي العام قبل بذلك و بالتالي فلم يعمل على تكوين رأي عام ضاغط على الحكومات المتعاقبة لبذل الجهود المطلوبة لتوفير الكهرباء لكل اليمنيين.
بل انه يمكن القول بان مؤسسة القطاع الخاص و مؤسسات المجتمع المدني لم تبذل أي جهود تذكر في المساهمة في حل هذه المشكلة. و قد اكتفى الجميع بشراء المولدات الخاصة و التي لا تمثل حلاً مقبولاً لهذه المشكلة لارتفاع تكاليفها و قلة كفاءتها.
الأعجوبة الثانية: فعلى الرغم من احتياج اليمن الشديد للكهرباء بدليل إرتفاع الطلب الكبير عليها مقارنة بالمعروض منها خلال فترة طويلة من الزمن لم يسمح لقوانين الاقتصاد في حل ذلك، فتخفيض أسعار الكهرباء كثيرا عن تكلفتها لكل المستهلكين القادرين و غير القادرين قد منع قوانين الاقتصاد من تنظيم سوق الكهرباء في اليمن، صحيح أن لا يكون الطلب على أي سلعة أو خدمة متساوياً للمعروض منها في كل الأوقات والأماكن، لكن الصحيح أيضاً أن أي اختلال بين الطلب و العرض في أي سلعة أو خدمة يكون طارئاً ومؤقتا في ظل كون سوق هذه السلعة أو الخدمة منظماً بأي شكل من الأشكال.
ولا يوجد أي مبرر اقتصادي أو سياسي أو اجتماعي لتشويه سوق الكهرباء في اليمن، فالنتيجة الحتمية لذلك كانت عدم توفر الكهرباء للجميع ـ الأغنياء و الفقراء. 
أن ما يفسر إهمال عدم تنظيم سوق الكهرباء هو الإهمال و الاستهتار و الفساد. 
صحيح أن قطاع الكهرباء يختلف عن القطاعات الأخرى من الناحية الفنية و الاقتصادية، لكن الصحيح أيضاً أن التطور في مجال التكنولوجيا و تنظيم المؤسسات قد مكن من التعامل مع قطاع الكهرباء بسهولة كبيرة، فمن الناحية الفنية فان الكفاءة الاقتصادية لإنتاج و توزيع الكهرباء تتطلب أن يتم ذلك من خلال حجم كبير مناسب، أي انه كلما زادت كمية التوليد و التوزيع كلما انخفضت التكاليف و خصوصا التكاليف الثابتة و كلما انخفضت أسعاره، لكن ارتفاع الحجم الأمثل للإنتاج و التوزيع في قطاع الكهرباء قد مثل مشكلة في توفير التمويل الكافي والإدارة الكفؤة.
فعلى سبيل المثال، فان الحجم الأمثل لمحطات الطاقة الكهربائية هو في حدود 500 ميجا و الذي يتطلب تمويلا لا يقل عن 500 مليون دولار.
 و من الواضح أن الطلب على الكهرباء في بلد ومهما كان صغيراً يتطلب وجود عدد كبير من هذه المحطات، مما يتطلب وجود تنسيق بينها لا تقدر على القيام به مؤسسات القطاع الخاص، الأمر الذي يحتم على الحكومة القيام بذلك حتى في حال النجاح في خصخصة قطاع الكهرباء بالكامل.
وعلى هذا الأساس، فان الحكومة تتحمل الجزاء الأكبر من ترك سوق الكهرباء بدون تنظيم، مما جعل مشاركة القطاع الخاص في هذا القطاع مستحيلا، فقد كان على الحكومة أن تقسم سوق الكهرباء إلى ثلاثة قطاعات هي قطاع التوليد و قطاع النقل و قطاع التوزيع. و في هذه الحالة كان من الممكن أن تهيئ الظروف المناسبة لمشاركة القطاع الخاص في بعض هذه القطاعات أي في قطاع التوليد و قطاع التوزيع، لكن من المؤكد أن تظل الحكومة تدير قطاع النقل.
في البداية لا بد أن تظل الحكومة شريكاً أساسياً حتى في قطاع التوليد و ذلك نظراً لطبيعة متطلبات التمويل و الإنتاج، فنظراً لضخامة رأس المال المطلوب و طول فترة استعادته و لكون خدمات الكهرباء المنتجة لا يمكن تصديرها للخارج و لا يمكن إيصالها إلى المستهلكين المحلين إلا من خلال شبكة النقل التي تسيطر عليها الحكومة، فان على كل من الحكومة و القطاع الخاص أن يدخلا في شراكة لمدة لا تقل عن عشرين سنة، و نظرا لطول هذه الفترة فانه لا بد من تقاسم المخاطر و العوائد بين الطرفين بطريقة عادلة، إن ذلك يتطلب التفاوض على اتفاقية معقدة منصفة و قابلة للتطبيق و تحفظ حقوق الطرفين.
لقد فرطت الحكومات المتعاقبة بفرص كبيرة كانت متاحة لحل مشكلة الكهرباء في اليمن، فعلى سبيل المثال فقد وعدت الحكومة الصينية في عام 2006 بتوفير تمويل ميسر لبناء محطات كهربائية، لكن بشرط أن تتنافس على بنائها الشركات الصينية فقط، لكن الحكومة اليمنية رفضت ذلك بحجة أن ضرورة تفتح المنافسة أمام الشركات العالمية. و من الواضح أن اشتراط الحكومة أمر غير معقول و لا مبرر، فأي دولة تقدم هذا التسهيل لا بد و أن تشترط أن تكون شريكاتها هي المنفذة. و لسوء الحظ فان هذا العرض الصيني لم يستغل حتى الآن لا في قطاع الكهرباء و لا في غيره.
وفي 2006 بعد موافقة المانحين على إعطاء اليمن ما يقارب من خمسة مليارات دولار لتمويل مشاريع البنية التحتية تقدمت بمقترح إلى الحكومة بان يتم تخصيص حصة الجانب السعودي في هذه المساعدة و البالغة مليار دولار لقطاع الكهرباء. و لأسباب غير واضحة فان هذا المقترح لم يحظ حتى بالنقاش. 
وإلى الآن فان اليمن لن تستطع استيعاب الجزء الأكبر من هذه المساعدات لا في قطاع الكهرباء ولا في غيره.
وعندما كنت وزيراً للمالية تقدمت بمقترح لوزير الكهرباء آن ذاك ـ رئيس الوزراء الحالي ـ بمقترح مفاده أني كوزير للمالية مستعد لعمل ترتيبات مع وزارة الكهرباء بمقتضاه يتم تخصيص مبلغ 100 مليار ريال من الفائض المحتجز في حساب الحكومة العام بدون استغلال لإنشاء محطة غازية لقدرة 500 ميجا و لكن بشرط أن يتم إنشاء صندوق استثمار يتم بموجبه استعادة هذا المبلغ خلال فترة معقولة بهدف إعادة استثماره في محطة أخرى، و لكن رفض هذا المقترح لوجود هذا الشرط فيه، مطالباً إعطائه المبلغ بدون شروط الأمر الذي رفضته.
وعلى الرغم من إعلان الحكومة ترحيبها بمشاركة القطاع الخاص في عملية التوليد، إلا أن القطاع الخاص المحلي لم يتحمس لهذا العرض لأسباب كثيرة منها: عدم وفاء الحكومة بالتزاماتها وعدم استقلالية القضاء و فساده، فقط تقدمت شركتان خارجيتان متعاملتان مع بعض المستثمرين المحليين استنادا إلى الحماية التي ستحصل عليها من خلال التحكيم الخارجي. و لكن عرضيهما لم يكن جادا لأنها لم تكن لها خلفية في مجال توليد الكهرباء و لا في مجال التمويل، فقد كانتا تبحثان على عقود مضرة بالبلاد بهدف تسويقها في الخارج مقابل الحصول على عمولات غير معقولة أو مبررة.
ومن الواضح أن الحكومة اليمنية و القطاع الخاص في اليمن لا يملكان الإرادة و لا المقدرة على انجاز مثل هذه الاتفاقيات و العقود. و عندما كنت وزيرا للمالية تقدمت بمقترح إلى مجلس الوزراء لإقامة وحدة خاصة لتتولى هذه المهمة و بمساعدة من البنك الدولي و بعد موافقة البنك على ذلك وافق مجلس الوزراء على هذا المقترح بشرط أن يكون تابعاً لوزارة الكهرباء. 
وبما أن وزارة الكهرباء غير متحمسة لذلك، فقد ظل قرار مجلس الوزراء حبيس إدراجها حتى اللحظة.
الأعجوبة الثالثة: على الرغم من توفر موارد محلية رخيصة لحل مشكلة الكهرباء مثل الغاز والرياح و الطاقة الشمسية، فانه قد تم تجاهل ذلك و تم التركيز على الديزل و المازوت فقط.
وفي هذا الإطار فقد يكون من المناسب التركيز على إهمال الغاز، صحيح أن اليمن قد تستطيع بناء و تشغيل أول محطة غازية لتوليد الكهرباء في مأرب، و لكن الصحيح انه كان بالإمكان أن يتم بناء و تشغيل العديد منها، فعلى سبيل المثال فان اتفاقية استغلال الغاز في مأرب لم تتضمن أي بند أو ترتيبات لاستغلال الغاز في توليد الكهرباء في محطة تصدير الغاز في بلحف، و على الرغم من وجود بند في هذه الاتفاقية يلزم الشركة اليمنية لتصدير الغاز بمد خط للغاز إلى صنعاء بهدف الاستغلال المحلي، فانه قد تم تعديل هذه البند بما يسمح للشركة تأجيل تنفيذ هذا الالتزام إلى أجل غير محدد.

وفي هذا الإطار فانه لا بد من إيراد بعض المحاولات التي قمت بها عندما كنت وزيرا للمالية، فقد جاءني وفد من إحدى الشركات الألمانية و الذي تقدم بإقامة محطة كهرباء بطاقة 50 ميجا في حضرموت بتمويل من البنك الأوروبي للتصدير. وكان من المطلوب أن أوفق على ذلك باعتباري وزيرا للمالية. و لكني رفضت العرض و قلت أني موافق عليه في حالة ما تكون هذه المحطة تعمل بالغاز، فاستغرب وفد الشركة من اعتراض وزارة الكهرباء على ذلك على الرغم من أن الشركة موافقة و أن ذلك في صالح اليمن.
بالإضافة إلى ذلك فان كل الدراسات تؤكد أن اليمن لديه مناطق متعددة تتميز بتياراتها الهوائية و التي تؤهله لان يكون من اكبر الدول المنتجة للكهرباء باستخدام الرياح. و على الرغم من المزايا البيئية لذلك فان له مزايا اقتصادية و اجتماعية. و يتمثل ذلك في أن حجم التمويل المطلوب لمثل هذه المولدات صغير نسبيا، و بالإضافة إلى ذلك فانه يمكن تكيفه ليناسب جغرافية و ديمغرافية اليمن، إذ انه يمكن أن يتم تركيب مولدات هوائية لتوليد الكهرباء في كل تجمع سكاني مناسب. و في هذه الحالة فان الريف اليمني سيكون المستفيد من ذلك، بل انه سيمكن القطاع الخاص و التعاون من حل مشكل الكهرباء بواسطة هذه الطريقة.

الأعجوبة الرابعة: فعلى الرغم من الحديث الممل و المتكرر عن مشكلة الكهرباء و ضرورتها لتطوير الاقتصاد اليمني، فانه لا يوجد لدى السلطة و لا المعارضة أية رؤيا أو إستراتيجية متكاملة للتعامل مع هذه المشكلة حتى في الأجل الطويل، ناهيك عن الأجل المتوسط و القريب.
لا شك أن ذلك مؤشراً سلبياً، إذ انه يعني أن مشكلة الكهرباء في اليمن ستظل مشكلة عويصة حتى في المستقبل المنظور، ذلك أن التفاوض على التعاقدات و توفير التمويل و طلب المعدات و تشغيلها و توفير البنية التحتية للاستفادة منها يحتاج وقتا طويلا. و لذلك فان عدم القيام بذلك من الآن أن اليمن على موعد مع الظلام لفترة طويلة لا يعلمها إلا الله.
إننا الآن في القرن الواحد و العشرين مما يحتم على اليمنيين أن يحلوا الغاز الكهرباء و يتعاموا معها كما تعاملت معها شعوب الدنيا حتى المتخلف.

الأكثر قراءة

الرأي الرياضي

كتابات

أحمد عبدالملك المقرمي

2024-11-29 03:22:14

نوفمبر المتجدد

كلمة رئيس التحرير

صحف غربية

المحرر السياسي

سيف محمد الحاضري

2024-10-14 03:09:27

القضاء المسيس ..

وكيل آدم على ذريته

أحلام القبيلي

2016-04-07 13:44:31

باعوك يا وطني

أحلام القبيلي

2016-03-28 12:40:39

والأصدقاء رزق

الاإصدارات المطبوعة

print-img print-img
print-img print-img
حوارات

dailog-img
رئيس الأركان : الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر

أكد الفريق ركن صغير حمود بن عزيز رئيس هيئة الأركان ، قائد العمليات المشتركة، أن الجيش الوطني والمقاومة ورجال القبائل جاهزون لحسم المعركة عسكرياً وتحقيق النصر، مبيناً أن تشكيل مجلس القيادة الرئاسي الجديد يمثل تحولاً عملياً وخطوة متقدمة في طريق إنهاء الصراع وإيقاف الحرب واستعادة الدولة مشاهدة المزيد