كانت الحشود المليونية في ساحة التحرير في القاهرة بمثابة ردّ واضح وحاسم على مَن اعتدى وحاول تحريف الثورة عن مسار إنسانيتها وقيمها وثقافة المواطنة التي تسعى إلى ترسيخها، وما تستولده من زخم يعزز ما يجمع ويلم، لأن ما حصل في إمبابة في 8 مايو الجاري كان من شأنه تلويث الإنجاز الملهم وإحباط الحلم الواعد، وتعميم أسلوب ووسائل التخويف، حتى تبقى الازدواجية الطائفية سائدة وتبقى شريحة من الشعب سجينة الخوف والتقوقع، ما يؤدي إلى شرخ معيب يهدد ما أنجز، ويعرقل مسيرة الثورة من خلال الاستفزاز والإثارة وإطفاء منارتها وإجهاض إنجازاتها.
لذا جاءت التظاهرة المليونية يوم الجمعة رادعة لمحاولة التمادي في استباحة قيم وأخلاق وسلامة نهضة واعدة لا لمصر وحدها، بل للأمة العربية بأسرها . من هنا كان شعار الوحدة الوطنية وارتباطها الوثيق بقضية تحرير فلسطين بمثابة توأمة هدف الثورة كرامة الإنسان.. والأمة. إلا أن المرحلة الانتقالية في مصر التي تدير العديد من خطواتها قيادة القوات المسلحة يعتريها بعض سوء الفهم بشأن مهامها ودورها.
لذا أعتقد أن مهام إدارة المرحلة الانتقالية تتطلب توضيحاً مثل مهام ودور شباب الثورة والحكومة الانتقالية. أود الإشارة إلى الحاجة إلى مزيد من وضوح صلاحيات وحدود كل من الأطراف في المرحلة الانتقالية وتعقيداتها حتى تستقيم إدارة المرحلة وتزول بعض الصعاب والاختلافات.
عندما قامت ثورة الجماهير في جميع أنحاء مصر انحصرت وحدة الهدف بإسقاط النظام، برغم محاولات القمع التي قامت بها الشرطة بتعليمات من قبل أجهزة الأمن التابعة للنظام البائد، وعندما حصل تهديد ومن ثم قتل لعدد من المتظاهرين، خاصة في القاهرة والإسكندرية وغيرهما من المحافظات، تدخل الجيش بهدف حماية الجماهير المحتشدة، واعترفت قيادته بشرعية الثورة، وقد بادلها الشعب بشرعية إدارة المجلس العسكري مع بعض التحفظات، كما أكدت قيادة الجيش التزامها تنفيذ مطالب الشعب، ما أدى إلى تسهيل إقالة كل من الرئيس مبارك ونائبه، وتجاوب الجيش مع تسريع قيام حكومة انتقالية مؤقتة ريثما يتم إعداد الدستور الجديد وانتخابات مجلس النواب ورئيس الجمهورية.
من البديهي، أن تظهر بين الفينة والأخرى بعض التباينات، وحتى بعض الاختلافات، إلا أن القيادة العسكرية كانت تستجيب وتعمل على تنفيذ معظم أولويات ثورة الشباب، تاركة معالجة القضايا المصيرية للحكومة الانتقالية المؤقتة.
وإذ أشير إلى الموضوع والتركيز على الشرعية المتبادلة، ولكون بعض الشكوك قد ظهرت إزاء موقف الجيش من الحشد المليوني يوم الجمعة الماضي والمشاركة مع الشعب الفلسطيني في ذكرى "النكبة"، خاصة أن الحكومة المؤقتة اتخذت قراراً مهماً بإعادة فتح معبر رفح ونجاح المصالحة بين فتح وحماس، علماً أن حسم وحدة مرجعية القيادة الفلسطينية لايزال مرشحاً لمزيد من الجهود المصرية خاصة.
صحيح أن اندفاع شرائح كبيرة كانت راغبة للتوجه إلى قطاع غزة للمشاركة في مسيرة العودة، أمر عادل يؤكد صفاء الالتزام القومي بحق الفلسطينيين في إقامة الدولة السيدة المستقلة على أراضيها وعاصمتها القدس، والتزام حق العودة، إلا أن هناك رأياً يعتبر أن خطوات أخرى مطلوبة لإنجاح مسيرة التحرير الفلسطيني، وهذا لا يتم إلا من خلال خطوات مدروسة بدقة لإزالة تراكم الأثقال المترتبة على معاهدة “الصلح” بالسرعة المرغوبة.
أمام التحديات التي تواجهها ثورة مصر لا بد أن تكون الأولويات واضحة ومدروسة، ومنها شرعية المساواة في حقوق ما تنجزه المواطنة وليس التكاذب الكامن بين "تعايش المسلمين والأقباط"، بل إن المواطنة تجعل الجميع متساوين في الحقوق والواجبات بدلاً من "الحصص"، ما يفرض على الأحزاب وضوح الرؤى والسياسات الاقتصادية والاجتماعية والتنموية، هذا يتطلب من الذين بادروا في تعبئة الجماهير لثورتهم الملهمة أن ينظموا أنفسهم بما يسهم إلى حد كبير باستقامة مناعة الثورة ضد أية اختراقات ظلامية، ويعيد هيكلة مستقيمة للتيارات العقائدية الإصلاحية وضبطها في أطر يتم من خلالها التنافس في الانتخابات القادمة بما يخرج الثورة من احتمال تبعثر جهودها وتعثر خطواتها، كما يضمن مسيرة التطور والانفتاح، إضافة إلى تأكيد ثوابت الثورة وجعلها قادرة على التكيف مع المتغيرات من دون أن تكون المستجدات مؤثرة في الثوابت المبدئية الراسخة في ثقافة ثورة 25 يناير.
إن ثورة مصر مطالبة بتمكين ودعم الثورات والانتفاضات الحاصلة على مستوى الأمة كي تختزل المعاناة وتمنع أي احتمال لقمعها وإجهاضها، فمصر الثورة هي الوعد الذي طال انتظاره، وما أنجزته في فلسطين برهن على أن مصر العروبة هي التي تعيد صناعة تاريخ العرب من خلال استعادة حقهم في صناعة مستقبلهم.. يبقى الحاضر الآن هو التحدي.
كلوفيس مقصود
لترسيخ أركان الثورة المصرية 1872