* اختلاط والتباس وسوء فهم.. هذا هو الملمح العام في فهم الشاعر لخطاب الإعلام الرسمي.. إعلام النظام، لم يعرف الناس إلى أي شعب يوجه هذا الخطاب مفرداته، قطعاً ليس لشعب هذه البلاد، المتورمة بالفواجع وترقب الأسوأ، يقيناً ليس لهذا الشعب الذي يقتات ويرفل هذا الإعلام من خيراته وعرقه ودمه وبؤسه، ربما كان الخطاب يتحدث عن دولة اسكندنافية لا عن نظام اليمن المستبد الشائخ الشائه، المتهالك.
ربما أراد الخطاب التعبير عن رغبة النظام في استبداد ناس هذه البلاد.. الذين استنزف احتمالهم حتى آخر قطرة صبر، وتبددت أمالهم في جدوى معاودة الرهان على ذات بنادق الحكم، وبعد أن تصدعت البلاد وجفت أضرع الثروات نهباً وإفساداً وشراء الذمم، بعد أن زهقت الأرواح وسفكت الدماء و...وإلخ.
خطاب الإعلام الرسمي يمكن أن يكون أي شيء، إلا أن يكون موجهاً لمواطن أهدر دمه وخسر أمنه وحلمه وخبزة بين مخالب لصوص وعصابات الأماني والأزعفة مواطن خسر حتى قبره تحت لهث وبسط طفيليي العقارات وكاسحات النهب العلني المشرع.. يمكن أن يكون هذا الخطاب أي شيء آخر إلا أن يكون قد صيغ لمخاطبة جائعي وخائفي وغير أمني اليمن.
لخطاب الإعلام الرسمي وقع الصدمة لمن كان يحفظ في عقله الباطن احتمالية ضئيلة بإمكانية إعادة العقل الغائب للنظام وإخراج سياساته من متاهات التية، ومشاعر الإحساس بالقوة المتغطرسة الرعناء.. فجاء يوجه لكمة بل لكمات قاسية مستخفة لكل من لازال يراهن على حيادية وعفة وصدق ممارسته وسمو رسالته، في المساهمة في وضع آليات لإخراج الوطن من هذه الأزمة التي تنذر بكارثة، بل نراه يأزم الأزمة ويعمل بالكارثة.. مخادع، مكابر، منفلت، لم يقرأ نتوءات مشهد اجتماعي يراكم داخله المزيد من عوامل التنشيز والتنفير، لم يقرع هذا الخطاب أجراس الخطر، لم يضع خطاً أحمراً على رقعة محتقنة، ملتهبة.. لم يرسم دوائر سوداء على سياسة نظام كل مخرجاته مجرد حزمة إجراءات طائشة تعمق جراح الوطن والمواطن، تصادر الوطن، تسحق آدمية وكرامة المواطن.
* خطاب الإعلام الرسمي لم يخجل من تسويق وممارسة أبشع أفعال التضليل والتقليل من وعي الشعب، في استيعاب تحديات تهدد كل نسيجه الحياتي، لم يقدم كشف حساب، مجردة ولو بصورتها الأولية البسيطة.. أين أخفق الحاكم وأين كان إخفاقه كارثة مميتة؟، أين تقهقر وأين كان تقهقره انكساراً وهزيمة؟ أين فشل النظام وأين كان فشله ضربة قاصمة وكسر عمود فقري قاتلاً للوطن؟.
لم يطرح هذا الخطاب معضلات للسياسة والاقتصاد، التنمية والفساد، النهب العشوائي المتعجل لكل الثروات، لم يشر لمعطيات التوكيد على عزم وإصرار النظام على السير بالبلاد في طريق لم ينتج سوى الدولة الفاشلة، لم يقل الخطاب كيف أن النظام بسياساته نجح في تصنيم هذه البلاد وكيف أراد تنميل ثقافة الرفض في الناس وتحويلنا إلى مجرد شعب نلتهم قطعة قطعة بصمت جنائزي "سعيد"!، كيف تبتلع أمالنا كدمى "تمر" وحلوى على ضجيج أهروجة "يافرح يا سلى"!!، لم يكاشف الناس بشفافية بالتعقيدات المنتظرة، حال استمرار العبث والهدر، القمع والبطش، الملاحقة والمصادرة وممانعة إصلاح بنى وروافع الوطن، خطاب المنجزات في وطن مهدد الحيل، منهوب حتى آخر لتر غاز ونفط وكيس طحين.. هذا الخطاب هو العقم بعينة وهو الإفلاس والسؤم.
من رقعة جغرافية يعيش أهلها قسراً تحت سطوة العبودية المختارة، القسرية المتوارثة، من هذه الرقعة المنهوبة أباً عن جد وحتى مضغة حفيد لم يتشكل بعد جاء خطاب الإعلام الرسمي تدريباً في تنمية الخيال، والحديث عن الوطن الغائب المستشهى كحقيقة معاشة واعتبار حاضر الدولة المقيت مجرد هلوسات خيانية، وتصورات ذهنية غير ملموسة، هذا الخطاب السلطوي المسير المتخم بالمنجزات.. المتجشئ حقوقاً وحريات، المترهل ديمقراطية وشراكة ووحدة مصير.. هذا الخطاب الناثر من حوله عدالة ومساواة.. وفرة وقوة ومواطنة متساوية واحدة.. قطعاً ليس موجهاً لمواطن يمني مؤتزر بالجوع عاري الصدر من الحقوق.. مفقود العينين كرامة وعدلاً وسلة طعام.. هذا الخطاب ليس موجهاً لمواطن مكسور اليقين بصوابية نظامه الاستبدادي.
إنه خطاب موجه إلى شعب آخر، شعب متخيل مفترض، يطرح منجزات وواقع في بلد خارج الكوكب ولن يكون في مطلق الأحوال اليمن، هو لا يتحدث للشعب، لا يتحدث عن هذا الشعب، كما أنه لا يتحدث لتمويه الخارج، فالخارج يدرك أضعاف ما يدركه النظام من فساد وسوء إدارته واضمحلال موارد وعجز آليات حكمه، الخارج يعلم أن النظام على مرمى حجر من الانهيار والتلاشي.
إذن الشعب الذي بلاشك أدرك اليوم جيداً زيف هذا الخطاب، الخارج الذي يتصور النظام أنه مظلة حمايته ومصدر للاستقواء به ضد الشعب ومطالبه وضد خصومه السياسيين في الداخل.. هذا الخارج عصي هو الآخر على التضليل، مدرك ليس باليقين القلبي بل بالدراسات والوقائع بالأرقام والشواهد، أين هي الحقيقة في كل هذا الخطاب، في كل خطاب "المنصة".
لذا فإن خطاباً كهذا خسر مواطنيه كعمق وجدار اتكأ أخيراً وخسر عكار الخارج، هراوة قمع وسقف حماية، لم يبق أمامه سوى الاسترسال في غيبوبة، في زهايمر سياسي، في خطاب مرسل عبر المرايا المنعكسة.. من الحاكم إلى الحاكم، بحثاً عن شعب آخر ووطن بديل، بلاد أخرى تقبل برموز الاستبداد كضيوف طوارئ ا لحكام مستبدين!.
محمد الحيمدي
الإعلام الرسمي وخطاب البحث عن شعب آخر!! 1904