من الخطأ أن نتصور أن الديكتاتورية لا تسعى إلى تبرير نفسها، وأن الديكتاتور لا يؤمن بأنه ضرورة، فكل الديكتاتوريين في العالم، من اليمين أو اليسار، علمانيين أو إسلاميين، بنوا سلطتهم على مبررات معينة. أما هل كانت تلك المبررات مقنعة للناس، وهل كانوا هم مقتنعين تماما بصحتها؟ فهذه مسألة أخرى.
فلنر ما يجري اليوم في الساحة العربية، الذي يمثل أكبر تحدٍّ تواجهه ديكتاتوريات المنطقة منذ ظهورها إلى الوجود. الرئيس اليمني يقول إنه يريد الرحيل، لكنه مستعد للدخول مع معارضيه في صراع يهدد وجود البلد من أجل بضعة أشهر أكثر في السلطة. والزعيم الليبي الذي لا يقبل أن نسميه رئيسا، أظهر ما يكفي من الاستعداد للوصول إلى أبعد نقطة ممكنة في تدمير بلاده وجرها إلى الحرب الأهلية والتقسيم والتدخل الخارجي، وما زال يعتقد أن وجوده ضروري، ولا يمكن للبلد أن يستمر من دونه. مراجعة خطابات الرئيسين السابقين بن علي ومبارك توحي صراحة أو ضمنا بمنطق الضرورة التي تجعل لوجودهما على رأس السلطة قدرا لا يمكن تقييده بالحديث عن تفاصيل، كالانتخابات الحرة والتعددية وتحديد مدة الرئاسة. وقبلهم جميعا كان جهاز الدعاية الهائل، الذي بناه صدام حسين، قد ابتكر عبارة «القائد الضرورة» للإشارة إلى أن وجود هذا الشخص في هذا الوقت رئيسا للبلد هو أكبر من أن يحتويه قاموس السياسة العادي، هو شيء أقرب للقدر وللنبوة.
ولكن هل الديكتاتوريون وحدهم هم سجناء هذا الوهم؟ لا أعتقد ذلك؛ فكما نشهد اليوم وشهدنا جميعا في السابق، هناك حاشية كبيرة من المستفيدين والمنتفعين والعملاء والمرتزقة و«المثقفين» و«رجال الآيديولوجيا» يرتبطون بالديكتاتور وينظرون لوجوده. ولكن الأخطر من هؤلاء جميعا هم أولئك المواطنون العاديون الذين يعتقدون أن وجود الديكتاتور ضروري و«أنهم شعب لا يستحق غير الديكتاتور».
هذا المنطق المازوشي ليس جديدا، لا على المكان ولا على الزمان، فطوال التاريخ لم يعدم المقموعون والمضطهدون والمهمشون، وجود فكر يبرر لهم خضوعهم، بل ويجعله يبدو وكأنه شيء عادي. وفي منطقتنا تحديدا، ظلت فكرة «المستبد العادل» مقبولة لزمن طويل، وما زالت مقبولة في الكثير من البلدان، ولكنها تواجه التحدي الأكبر اليوم مع جيل جديد تحرر من آيديولوجيات الماضي، وارتبط بوسائل تواصل لم تكن متوفرة سابقا.
أكبر التبريرات التي استخدمت لشرعنة الديكتاتورية الحديثة هي التنمية. حزب البعث بنسختيه (السورية والعراقية) كان حريصا منذ أدبياته المبكرة، التي وضعها ميشال عفلق، على القول إن نهج الحزب هو نهج انقلابي، وأن السيطرة على الدولة «من أجل النهوض بالمجتمع» تشكل أهم تحد للبعثيين الذين بحكم انتمائهم للبعث يحملون الشرعية الكافية لقيادة الأمة. تلك السفسطات كانت طبيعية جدا في سياقها التاريخي، وكانت تعكس آيديولوجية مسيطرة في العالم الثالث؛ من كوبا الشيوعية مرورا بمصر الناصرية، وانتهاء بصين ماو تسي تونغ، فمعظم حركات التحرر الوطني ذات الآيديولوجيات المعادية للإمبريالية، كانت ترى الدولة أداة التغيير المثلى لتحقيق تطور وتنمية سريعين، بما يتطلب قدرا كبيرا من الحزم والسيطرة و«الاستقرار». كلمة الاستقرار كانت مفتاحا سحريا لبناء أجهزة أمنية ومخابراتية قمعية تدريجيا بات سلوكها يهدف إلى حماية النظام وحماية استقراره، بديلا عن حماية أمن البلد والمواطنين.
الديكتاتورية كأداة للتنمية اكتسبت زخمها من فشل الأنظمة الليبرالية التي تلت الاستقلال «الاسمي» في تحقيق قدر مقبول من العدالة الاجتماعية، كما رأينا في نماذج مثل مصر والعراق وسورية وليبيا واليمن. كان ذلك الفشل الذي تكرس بتحول تلك الأنظمة إلى أنظمة نخبة مرتبطة بالقوة الاستعمارية السابقة وبالأرستقراطية المحلية، دفع الطامحين من الأجيال الجديدة، الذين انخرطوا في مؤسسة الجيش، إلى قلب تلك الأنظمة وإطلاق مشروع الدولة «الوطنية» التي أجلت الديمقراطية لأنها ستكون تكرارا لما سبقها من حكم نخبوي فاسد.
كانت الديكتاتورية جزءا من آيديولوجيا الأحزاب الشمولية التي قادت عملية التغيير الاجتماعي في مصر والعراق وسورية والجزائر، وحققت نجاحا على صعيد تحرير الثروة من السيطرة الأجنبية، وإطلاق برامج مهمة على صعيد الإصلاح الزراعي والتعليم والتطوير الصحي والتصنيع. تلك كانت العناصر الرئيسية لأي آيديولوجية تنموية، وقد ضمنت تلك الأنظمة قبول قطاعات شعبية واسعة بها وتسامحها مع غياب الديمقراطية، على أساس تلك الوعود.
لكن تدريجيا بدأ وهم التحديث الديكتاتوري يتكشف عن واقع صعب ومزر أحيانا، لا سيما في الحالات التي تسلم زمام السلطة فيها أشخاص يفتقرون إلى أي مشروع سياسي أو اجتماعي غير البقاء في السلطة. كان انهيار المعسكر الشيوعي انعكاسا لحقيقة التكلس الذي أصاب تلك الأنظمة بفعل بنائها لأجهزة حزبية وأمنية وبيروقراطية استهلكت معظم الموارد ونخرها الفساد، دون أن تكون قادرة على مواجهة إشكاليات البلد بكفاءة. فحتى ما وفرته من رخاء نسبي في الفترة المبكرة تلاشى بسبب التضخم السكاني والحروب والهجرة من الريف إلى المدينة وغياب التخطيط.
لم يعد هنالك من سند قوي لفكرة الديكتاتورية التحديثية اليوم غير «النموذج الصيني»، ولكن هذا النموذج، علاوة على أنه ينتمي إلى مجتمع ذي مواصفات مغايرة لمجتمعات المنطقة، فإنه يسجل نجاحا على صعيد زيادة معدلات النمو، دون أن يحقق اختراقا هائلا على صعيد التنمية البشرية ومكافحة الفقر. والصين ما زالت بلدا غير مفتوح من الناحية المعلوماتية، وما زلنا نتذكر كيف تم قمع الاحتجاجات في ميدان تيانانمين، وحجم القيود المفروضة على الإنترنت اليوم، بما يجعلنا نتساءل ما إذا كان النموذج الصيني نموذجيا فعلا؟!
إن الديمقراطية لا تشكل خطرا على التنمية إلا إذا ما أسيء استغلالها وفهمها، كما يحصل في العراق ولبنان مثلا. فمشكلة هذين البلدين ليست في الديمقراطية، بل في بناء مؤسسات قوية وفاعلة ومحايدة وغير مخترقة من الصراعات الإثنية والطائفية، وبالتالي هي مشكلة تتعلق بالهوية الوطنية أكثر منها بعيوب الديمقراطية. وكما تبرهن الحالات العراقية والليبية واليمنية والسودانية، وربما السورية، فإن الديكتاتورية تفشل دائما في بناء هوية وطنية بقدر ما تنجح في إخفاء التصدعات الاجتماعية الداخلية خلف جدار من الصمت والتعتيم، وضجيج إعلام متملق مهمته التضليل وتحريف الحقيقة، لتبقى حقيقة واحدة مستمكنة، هي تلك التي يصنعها الديكتاتور الضرورة.
*نقلا عن "الشرق الأوسط" اللندنية
جابر حبيب جابر
هل تصلح الديكتاتورية أداة للتطور؟ 2061