هو الملل من الشتات وطول المعاناة، وهو الملل من الكبت والاستبداد وتكميم الأفواه وهو البحث عن العيش الكريم في شعوب تمتلك كل وسائل وإمكانيات الحصول عليه، ولكن أنى لهم ذلك وشعار حكامهم [جوع كلبك يتبعك]، يمتنون على الشعوب بذلك ويحسبون أنهم يمنحونهم وسام شرف التشبيه بالكلب، الذي وإن اتصف بالنجاسة فقهاً، فإنه يتصف بالإخلاص والوفاء على اعتبار حسن النية فيهم.. وإلا فإن الشعوب في عين عميد الحكام العرب لا تعني لهم إلا الجرذان، التي تحتاج لشدها من ذيولها وهي تدخل ضمن الفواسق الخمس، التي يجب قتلها في الحل والحرم.
ومن هذا المنظور يتم التعامل مع الشعوب التي أمطرت سماءها الهموم والتنكيل وطال شتاءها طول الشتاء الأبدي، الذي لا يذوب له ثلجاً ولا يعقبه ربيعاً.. افتقدت الشعوب العربية الوحدة بمفهومها الإيجابي بفعل الحدود المصطنعة وموانع الأنظمة المتكالبة على الاستفراد بالشعوب.
ولكنها -أي الشعوب- توحدت مع كل أسف في مصير قاتم وحالك، فرضته الأنظمة، رغم اختلاف انتماءاتها وولاءاتها الموزعة بين اليسار واليمين، إلا أنها في تعاملها مع الشعوب شكلت نوعاً من التوحد فرضته على الشعوب، ليس التوحد تحت راية القومية العربية ولا تحت راية الخلافة الإسلامية، ولكن تحت راية الفساد والقمع والتجهيل والتضليل والتوريث.. تلاشت الفوارق بين نظام وآخر، وتكشفت الأقنعة بظهور قبح أوجه الأنظمة بعد أن أزالت الشعوب بطهر ثوراتها قبح ودنس الماكياج والمستحضرات المصطنعة بأبواق الإعلام المأجور والزائف، وعرت الثورات تلك الهالة والعظمة والعملقة التي أحاطوا بها أنفسهم، لتظهر الحقائق الكاشفة مسفرة عن أقزام طموحهم لا يتعدى جمع الأموال وتخزينها، ورمي الفتات منها على المرتزقة والأتباع بهدف إذلال الشعوب، وخدمة لنزواتهم ورغباتهم وتمجيدهم، تؤخذ الأموال من الشعوب لتحارب بها الشعوب, ومن يطالب ببعض حقوقه تتصدى له أبواق الأنظمة، لتصفه بالإرهابي والمتآمر على الوطن، والفاسد الحاقد، الذي يجب أن يسكت أو يقطع لسانه أو تقنص عينه ورأسه.
فمن بلاطجة التحرير في القاهرة بما أصبحت تعرف بواقعة الجمل، إلى بلاطجة من نوع آخر في درعا وحمص يطلق عليهم الشبيحة لا يستخدمون الجمل، وإنما يرسلون زخات الرصاص على من يطالب بالحرية ولو في بيوت الله، إلى بلاطجة ساحة التغيير وجولة كنتاكي، الذين أبدعوا في قنص الرؤوس والرقاب، بدعوى منع الضوضاء التي يسببها المتظاهرون للسكان ومثلهم مثل تلك التي تطرد عن وجه زوجها الذبابة بصخرة، فتهشم وجه زوجها وتقتله حتى تطرد الذبابة.
إنه الحرص على راحة الناس والتضحية العظيمة التي يقدمها الساهرون على أمن المواطنين في أرقى صورة حضارية.. لم أكن أدرك وأنا أقرأ ليزيد بن معاوية:
إن يحسدوني على موتي فوا أسفى
حتى على الموت لا أخلو من الحسدِ
إنه يمكن أن يحسد أحد على موته، إلا هذه الأيام التي فيها يحسد أهل أجدابيا ومصراته وثوار الساحات في مختلف المدن العربية، سكان غزة الذين تقتلهم طائرات ودبابات اليهود، فيستشهدون وهم مرتاحي الضمير، بينما الآخرون يقتلون بأيدي كتائب قادة الثورة وزعماء الشعوب، الذين طالما صفق لهم أبناء الشعوب وهتفوا بحياتهم وفدائهم، فيصبون عليهم الموت الزؤام ويموتون مرددين حسرة وألماً:
وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ً ** على النفس من وقع الحسام المهند
الحسام المهند
المواطن العربي.. والمعاناة 2081