أذكر أنه ذات يوم حدثني طبيب مختص بجراحة المخ، أن هذا الجزء الصغير جداً من أعضاء الإنسان من أقعد مكونات أجسامنا، بل إن المخ البشري وحده يفوق أدق جهاز كمبيوتر حتى الآن.
ويكفينا أن نتأمل الذاكرة وهي جزء من عمل المخ، وكم داخل الذاكرة البشرية من تفاصيل هامة وتافهة نظل نراكمها طوال حياتنا ونأخذ من أدراجها ما شئنا وحسب حاجتنا.
ومن النعم على الإنسان أنه ينسى أو يتناسى حتى يستطيع أن يواصل العيش، ولكنني التقيت بأحد الناس وقد أضاف إلى ذاكرته، ما هو أغرب وأعجب، ولم يكن ذلك إلا قدراً هائلاً من الأحزان.
إنه معلم عرض علي ملفاً كبيراً، وراح يرجوني أن أفعل شيئاً لإنقاذه!، وكم كان طلبه ظريفاً أو قل محرجاً لأني آخر من يستطيع أن يقدم له ما ينقذه، قلت له: ما الذي بهذا الملف؟.. فأجاب ملف أحزاني.
وحسبت الأمر دعابة ولم يكن كذلك، بل إن الرجل أضاف: هذا واحد من عشرات الملفات التي سجلت فيها أحزاني، فلم يعد لي من عمل في هذه الدنيا إلا كتابة أحزاني في ملفات أكتبها وأصفنها حسب الموضوعات، وأحتفظ بها، وأنتظر من يستطيع مشاركتي في هذه الأحزان، وينقذني وقصدتك أنت لأنك ممكن تنقذني وذلك بنشرها عبر الصحافة.
لعلها من أغرب المصادفات التي حصلت لي، وطلبت منه نماذج أخرى لأراها، وفي اليوم التالي كان الرجل يتأبط دستة ضخمة من الملفات ووضعها على الطاولة، فرحت أقلبها: "ملف أحزان الزواج"، "ملف أحزان الأولاد"، "ملف أحزان الاغتراب"، "ملف أحزان العمل"، "ملف أحزان الجيران".. إلخ.
ها أنا وجهاً لوجه مع نموذج حي لبطل من أبطال روايات "كافكا" المسحوقة من أساسها بالعدمية واللاجدوى والاضطهاد، لقد كان ذلك المعلم "الحزين" وخازن مكتبة "الأحزان" تلك قد "طلق" الفرح إلى الأبد، فعندما جنحت به الحياة لم يجد أحداً ينقذه، فلم تعدله من سلوى إلا تصنيف الأحزان وانتظار الذي يأتي والذي لا يأتي.
وإذا كان ذلك الرجل "المعلم" قد قطع الحبال مع الآخرين، ولم يعد يستطيع أن يخزن في ذاكراته الأحزان ويواصل الحياة، فإننا في رأي قد لا نختلف كثيراً عنه، على الرغم من تقارير الأطباء النفسيين في حالته، والتي تقر أنه مريض، ولا يقبلها هو.
الفرق بيننا أنه أمسك بذاكراته، وهز أدراجها، وأفرغها على الوراق، ولم يعد لديه القدرة على تجاوز الحزن.. أما نحن فما تزال "ملفات أحزاننا" في أدراج المخ، نحكم إغلاقها، مصممين على مواصلة الحياة واختزال المزيد من الصفحات داخل الذاكرة.
وسأظل حائراً أمام سؤال سألني إياه نزيل مستشفى أمراض عصبية عندما اقتربت من السور، وناداني ثم قال لي بهدوء حزين: يا أخ.. هل تستطيع أن تخبرني من هم المجانين، الناس الذين داخل هذا السور أم الذين خارجه؟.
وإلى الآن منذ ما يزيد على العقد من الزمن حين سُئلت ذلك السؤال- أعترف أنني ما زلت عاجزاً عن الإجابة؟!.
alhaimdi@Gmail.com
محمد الحيمدي
من هم المجانين؟ 1556