عرف النظام الدولي للقرن العشرين وما قبله مستويات عديدة للمنتظم الدولي "متعدد الأقطاب، ثنائي القطب، أحادي القطب"، لكن تلك التحولات والتطورات لم تأتي بمحض الصدفة بل كانت إرهاصاتها بحجم التغير الحاصل.
فالحرب العالمية الأولى 1914-1918م أفرزت نظاماً دولياً متعدد الأقطاب، وظهور كيانات جديدة لحفظ التوازن في النظام الدولي ورعاية وحماية الأمن والسلم الدوليين، إلا أنه يعد استمراراً لما قبله من سيطرة الدول
الاستعمارية، بيد أن تلك الجهود باءت بالفشل من خلال عدم قدرة تلك القوى والمؤسسات في أداء مهامها بسبب طموحات بعض القوى في السيطرة والتوسع، واندلعت الحرب العالمية الثانية 1939-1945م، التي أنتجت
بدورها نظاماً دولياً جديداً ثنائي القطب، يتقاسمه معسكران.. غربي ينخرط ضمن حلف الناتو.. وشرقي يندرج تحت مظلة حلف وارسو [WARSO] ليدخل العالم في حرب من نوع جديد [Cold War]
الحرب الباردة، التي كانت تسخن أحياناً أو ما اصطلح على تسميته الحرب بالوكالة.
وكان سقوط جدار برلين وتفكك الإتحاد السوفيتي وانهيار حلف وارسو إيذاناً بإعلان نظام آخر جديد، هو نظام الأحادية القطبية وكان ذلك ابتداءً من العام 90م.. الأمر الذي مكن الولايات المتحدة من الاستفراد بقيادة العالم إلى
يومنا هذا.
غير أن استفراد الوليات المتحدة الأميركية بالسيطرة على النظام الدولي قد خلق في العالم العديد من الأزمات والحروب غير المشروعة، ناهيك عن التوترات والانتهاكات التي مارسها الأميركان سعياً منهم لتحقيق مصالحهم
وأهدافهم في مناطق مختلفة من المنتظم الدولي ابتداءً ببنما وفيتنام، مروراً بالصومال وانتهاء بإنشاء معتقل غوانتنامو بأفغانستان والعراق.. بيد أن اليوم وبسبب تلك التصرفات وطموحات قوى أخرى أصحبت هناك مؤشرات تفيد
بأنه في المستقبل المتوسط سيشهد ظهور قوى دولية أخرى يكون لها دوراً أساسياً في صناعة القرارات الدولية، الأمر الذي يجعل الولايات المتحدة غير قادرة على صناعة واتخاذ القرارات الدولية بمفردها.
ولعل التطورات والنمو والتنمية التي تشهدها بعض دول آسيا مثل الصين، التي أمست تحقق أعلى معدلات نمو في العالم، إضافة إلى أن منتجاتها غدت متوفرة وموجودة في أغلب قرى القرية الكبيرة الكرة الأرضية، زد على ذلك
امتلاكها قوة نووية لتكون عضواً دائماً في مجلس الأمن الدولي.. واليابان الدولة التي يعد اقتصادها من أقوى الاقتصاديات العالمية، والهند الدولة النووية، التي أصبحت رقماً مهماً في اللعبة الدولية التي تعد من أكثر دول العالم
سكاناً.. حيث تجاوز عدد سكانها المليار نسمة، وهي من أكثر بلدان العالم إنتاجاً للثروات الزراعية وتمثل قبلة للاستثمارات التكنولوجية بسبب رخص الأيادي العاملة والمواد الأولية، واندونيسيا وماليزيا والكوريتين آسيوية واعدة
تحقق نمواً وتنمية جيدة.
وروسيا الإتحادية التي عادت إلى السطح من جديد بعد ترتيب بنيتها الداخلية وإعادة صياغة جملة من المبادئ في علاقاتها الدولية والتي تملك قاعدة صناعية نووية.. وثروات نفطية وغازية تجعلها من المراتب المتقدمة في هذا
السياق ناهيك عن الاتحاد الأوروبي الذي يشكل تحالفاً قوياً في وجه الأحادية والذي يبحث عن الخلاص منها وفتح المجال أمام قوى جديدة للتشارك في عملية صناعة القرارات الدولية.. فألمانيا تعتبر من أكبر الاقتصاديات
العالمية.
إذاً فالأحادية بدأت تستنفد قدرتها وإمكانيتها مبتدأ في التهيئة لبروز نظام متعدد الأقطاب تكون فيه أميركا واحدة من عدد وجزءً من كل وهو أمر يسهم في استقرار النظام الدولي بشكل أكبر من عهد الأحادية الذي جعل العالم يتقهقر
للوراء في شتى ميادين الحياة.. انتهاكاً لحقوق الإنسان.. تهديد الأمن والسلم الدوليين.. التدخل في الشأن الداخلي للدول.. تقسيم بعض الأقاليم إلى أجزاء وفقاً لمصالح راعي القطب الأوحد، مثل مشروع الشرق
الأوسط الكبير، تقسم السودان إلى شمال وجنوب.. وتقسم العراق إلى ثلاثة أقاليم "سنة، شيعة، أكراد"..وغير ذلك هذه الأمور التي ستسهم في تآكل النظام الأحادي، إضافة إلى توافر عناصر القوة بكل أبعادها الاقتصادية،
العسكرية، السياسية، التكنولوجية، الديمقراطية، الثقافية ...إلخ، لدى الدول الصاعدة بقوة في هذا المضمار.
شايف ين علي جار الله
الأحادية القطبية في مهب الريح 2331