عدن الجميلة، هذه المدينة التي تغنى بها الشعراء، وكتب عنها المثقفون أجمل القصائد والمقالات والمؤلفات، وترنمت بها أعذب الألحان، وأمتلأت أرفف المكتبات بروائع الكتب والحكايات التي تتحدث عن سحر مدينة عدن التي تغسل أهداب جبلها بمياه بحرها الدافئ، فيما أشعة الشمس تتلألأ على رمالها الذهبية التي تأسر ألباب الناظرين إليها.. تلك الرمال التي التحف على بساطها الذهبي أهلها والزائرون، وكل الحالمين لتأمل جمال المدينة والتماهي مع سكينتها وطيبتها، والاستمتاع بنسيم بحرها وهواها العليل.
فقد أثارت عدن بتضاريسها وهوائها ومائها وأهلها المبدعين وشوقهم لها كلما ابتعدوا عنها قليلاً، وكلنا يتذكر فنان اليمن والعرب الكبير/أبوبكر سالم بلفقيه- الذي فاضت مشاعره لوعة وصبابة على عدن: بأغنيته الشهيرة: يا طائرة طيري على بندر عدن.. زاد الهواء ..زاد النوى.. زاد الشجن..على البعد ما أقدر أنا.. أشوف يومي سنة..ذي جنة الدنيا حواها كل فن..ياطائرة طيري على بندر عدن، ويصف الأمير الشاعر/أحمد فضل القمندان عدن بمنارة للعلم ويقول في شعره:
إذا رأيت على شمسان في عدن ** تاجاً من المزن يروي المحل في تبن
قل للشبيبة نبغي هكذا لكمو ** تاجاً من العلم يمحي الجهل في اليمن
ومنذ القدم قصد المدينة الطامحون والحالمون، الباحثون عن بريق ومجد عدن وخيراتها، ولذلك فإن كل من مر من هنا (عدن) ترك أثراً وذكرى، وأصبح كل ذلك ملكاً لهذه المدينة وثقافتها، وعلينا جميعاً الحفاظ عليها والحديث باستمرار عنها وتذكير بعضنا البعض بمسؤوليتنا تجاهها.
لقد عاشت هذه المدينة مراحل متعددة، وكانت حاضرة حية للعديد من الحضارات التي تعاقبت على اليمن منذ أكثر من ثلاثة ألف وخمسمائة سنة.
وسطر لنا التاريخ إسهام هذه المدينة المهم في الحضارة اليمنية طوال الحقب الماضية، التي كانت فيها مدينة عدن صانعة للكثير من الشواهد والمآثر العظيمة..، ولكنها شهدت في الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، ازدهاراً تجاريا ملحوظاً على مستوى المنطقة ونشطت فيها المنتديات، والجمعيات، والنوادي، الثقافية، والصحافة، والفنون، والثقافة، والرياضية، والتعليم.
فقد وجد فيها اليمنيون وغيرهم فرصاً للعمل، وكذا لإظهار إبداعاتهم في مختلف المجالات، وضمت المدينة انصهاراً وخليطاً إنسانياً حضارياً ثقافياً رائعاً، أنتجت هذه المدينة بتسامحها وتآزرها وتواد أهلها، الذين رسموا لوحة إنسانية..، هي آية في الجمال قلما وجد نظير له في مدينة أخرى.
كما تكونت في هذه المدينة الحركات الوطنية، وشكلت الحضن الدافئ لها، فمن هنا تمت مقاومة الإستعمار البريطاني، ومن هنا انطلقت أفكار وقيم الثورة والتحرر ضد الحكم الإمامي الكهنوتي المتخلف.
لقد تعرضت هذه المدينة لإهمال شديد خلال فترة مابعد الاستقلال حتى قيام الوحدة اليمنية المباركة.
عدن اليوم وبعد "20" عاماً من الوحدة وبعد معاناتها الطويلة لزمن ماقبل الوحدة، تعيش اليوم في ربيع عمرها من خلال مشاهدات ومعايشة الزائرين إليها، فقد تطورت بنيتها التحتية بمختلف المجالات وتشذبت وتوسعت شوارعها وأحياؤها، وازدانت بحلة جديدة خلال سنوات الوحدة، وتوجت زينتها وجمالها وأناقتها إبان العرس الرياضي الثقافي (خليجي 20)، وظهرت بأحلى حلتها.
إن ذلك لم يكن متاحا ولاممكنا لولا اهتمام القيادة السياسية بقيادة فخامة الرئيس/علي عبدالله صالح – حفظه الله – الذي أولى هذه المدينة اهتمامه الشخصي الخاص باعتبارها عاصمة اقتصادية وسياحية وثقافية ورياضية لليمن.
إن الحاضر المزدهر لعدن يشجعنا على نفض الغبار عن آثار ومعالم عدن التاريخية التي لم تحظى بالاهتمام الكافي من قبل، وهو مايتوجب الإعلان الواضح والصريح للاهتمام والرعاية لمعالم عدن.. فلايجوز أن تبقى الصهاريج- هذا المعلم التاريخي الثمين للوطن بهذا الإهمال غير المبرر، وعلى السلطة المحلية أن تأخذ الموضوع بيدها وتتمسك بمسؤوليتها.
إننا ندعو لانتقال صلاحية الإشراف على المعالم التاريخية الموزعة بين عدة جهات إلى جهة واحدة بعينها وهي السلطة المحلية بمحافظة عدن، وتخصيص جزء من مواردها لحمايتها وتطويرها وللحفاظ على هذه الذاكرة الحية التي نقلت لنا عظمة الأجداد في ماضيهم التليد.
إن اتساع المباني الإسمنتية والمساحات الإسفلتية أثر على بيئة عدن، وقلص من المساحة الخضراء فيها، وهو مايستدعي الاهتمام بتنظيم عملية التخطيط المدني وتشريع قانون يلزم المؤسسات والأفراد والشركات بحماية الأشجار وجعلها قضية أساسية، بما يمكن من الحفاظ عليها وحماية عدن من المخاطر المهددة للبيئة والمضرة بالمدينة وسكانها.
ولايسعنا في الأخير إلا أن نختم كلمتنا هذه بأسطر معبرة للشاعر الكبير/لطفي جعفر أمان، وهو يصرخ بعلو صوته يرفض البقاء على أطلال الماضي، والمجد القديم، ويبشرنا بالسناء الذي يغمر الأفق والطريق الذهبي للوطن الذي تحقق عقب تحقيق الوحدة المباركة، فيقول:
بلادي لم أعد أسطورة في الكتب
لم أعد من ألف (ليلة) ليلة من عجب
لم أعد أنقاض مجد في ضمير الحقب
لم أعد أدفن دمعي في رغام الغيهب
لم أعد طيف خيال بالرؤى مختضب
أو أنينا راعف الجرح بصدر مجدب
أو نشيداً مخجلا يضحك منه الأجنبي
أشرق المسعى فللنور شذى من مطلبي
والسنا يغمر أفقي وطريقي الذهبي.
رئيس جامعة عدن
د/ عبدالعزيز صالح بن حبتور
عدن الجميلة 2590