حين تزلزل الأرض من تحت أقدام أحد الأنظمة الشمولية، فإن تبعات هذا الزلزال تتردد بين جنبات وجدران الاستبداد، يرفع الاستبداديون الآخرون في أركان أخرى مظلاتهم المعدنية ذعراً وخوفاً وخشية ذات المصير.
وفي وعي أنظمة الاستبداد ونهب ثروات العباد تُسطح القراءات.. وتبسط الأحداث، وتجزئ الاستخلاصات والدروس والعبر.. فإذا كان الاحتلال الأجنبي هو رأس حربة الخطر، الذي يوجه طعناته إلى هذه الأنظمة
ورؤوس الحكم –وهو قطعاً ليس كذلك- تنادي الحكام للتقاطر فرادى وزرفات للاحتماء بالأجنبي من مخاطر ذات الأجنبي!.. احتماء يقدم نفسه في حزمة تنازلات، تبدأ من فتح حدود الأوطان، على هيئة استحقاقات واجبة
الوفاء.. واملاءات تجعل من الحاكم مجرد شرطي ينفذ ولا يناقش، يستجيب ولا يعترض.. وكأننا نقف وجهاً لوجه أمام مختبر تجارب.. نراقب من خلف زجاج شفاف خطوات "بافاوف" وهي يروض موضوع
التجربة على الاستجابة المشروطة الفورية.
أما الحكام المستبدين فيكفيهم التلويح برضا وقبول الدولة الأوحد، الأوحش في العالم –أميركا- بإبقائهم على عروشهم والضرب صفحاً عن جرائمهم وسياساتهم الفاسدة –يكفي إيماءة السيد "الأجنبي" ليتحول بعدها المستبد
المتجبر إلى عجينة لينة سهلة التشكيل في مطابخ القرار العالمي.
حين تمطر أي من العواصم خراباً وغزواً واحتلالاً يرفع المستبدون الذين يرتعون من وبين أكبادنا.. مظلات الأجنبي علها تقيهم الشظايا المرتدة القادمة من نقطة بعيدة في الأفق.
لم يفكر المستبد يوماً أن يلوذ بنفسه إلى الشعب من خطر قادم.. أن يجعل كفالة حقوق مواطنيه حصناً منيعاً للحماية.. ومتراساً يذود عبر تماسك صفوف أبنائه عن حق الاستقلال ويصون السيادة من مخاطر التدخل.
اللجوء إلى كنف الشعب وصفه لم يجربها الحاكم المستبد.. بل يرى فيها انتقاصاً من وجاهة الذات الرئاسية وارتخاء لقبضة "العادل" المستبد، الذي يمسك عن الشعب عدالته، ويطلق بالعدل والقسطاس استبداده ليسوط
ويعذب الجميع بمظالمه دون تفتير أو مفاضلة.. بين من هم دون دوائر وحلقات الحكم الضيقة.
وفيما كل الجسور مقطوعة بين نظام الرجل الواحد، والعشيرة الواحدة، وبين الشعب نخباً وأحزاباً وسواداً أعظم.. فإن ذات الجسور سالكة..معبدة مفتوحة المعابر مع جيوش وسياسيات استخبارات "اليانكي".. وما
تحجبه سلطة الاستبداد عن شعوبها من انفتاح وإصلاح وإنصات وتداول في الشأن العام.. تقدمه الحكومات صاغرة خانعة على مائدة الأجنبي لابتلاع خيرات الأوطان وجبة وجبـة وكرامته قطعة قطعـة!!.
وفي مثل هكذا مفارقة: غلو في التعالي ضد الداخل وتطرف في الخضوع والخنوع للخارج.. حزم حتى أقصى درجات البطش مع مطالب مستنيري الشعب.. وتفريط حتى أبعد صورة الإذلال مع تعديات الأجنبي
المتقاطع مع تطلعات الشعب.. في مثل هكذا مفارقة –يقدم الحاكم المستبد للتسويق رضوخه بصورة الحكمة وتنازلاته بصفات العبرية.. إما انعزاليته عن مطالب الشعب وصد أبواب المصالحة والتصالح وشد اللحمة
الوطنية دونهم في إشارة إلى أن قبضة الحكم الحديدة وقوته "الموهومة" لم ترتخ حتى ضغوط الثورات والواصف والأنواء الممتدة من داخل الوطن وخارجه.
وفي عملية خلط أوراق التحديات تلك تفرض الخيارات على الشعوب: بين احتلال ترفضه حتى آخر ذرة كرامة ووطنية وبين استبداد مقيت.. نتوق للخلاص منه بعملية سياسية سلمية تراكمية نظيفة.. خياران تروعنا بهما
الأنظمة المستبدة: القبول بـ"حمى" الأنظمة بتعسفها ومصادرتها وقمعها للحقوق.. أو الرضوخ لنار الاحتلال.. خياران كلاهما مُر.. فلا كرامة تصان ولا أوطان تبنى بدبابات الغزاة.. ولا استبداد يوفر أسباب
ومبررات التعاطي والتعايش معه.. والاستبداد هو العربة الأولى في قاطرة كل احتلال غاشم غاز.. هو بوابة الاحتلال ، وإكساب الأوطان منعة ومقاومة تبدأ بالإطاحة السلمية المدنية بتنظيرات ومن ثم ممارسات الحكم
الشمولي الاستبدادي وموروثه العنيف.
الحكم الاستبدادي "أي حكم كان وفي أي رقعة كانت" يرى في موازين المجتمعات وتنوعها خطراً داهماً يهدد لون حكمه الواحد.. ومن ذلك الاعتقاد المرضي تتكشف أسباب الإسراف باستخدام القوة ضد المعارضين
وإبداع ترسانات الأحكام.. الاستثنائية المقيدة.. ولا يرى الحاكم في هذه "الفسيفساء" بتنوعاتها وخطواتها السياسية والمجتمعية المختلفة غناءً لحراك سياسي وإثراء لاستقرار الحكم على قاعدة التمثيل الأوسع نطاقاً.
ولأن عقلية الاستبداد تكابر في رفض متغيرات واحتياجات الواقع الموضوعي.. فإنها دوماً ما تلجأ إلى الحيلة والتذاكي في التقاط رد فعل الخارج وتداعياته.. وتقديمه لشعوبها على صيغة فعل خالص الوطنية، مدراً من
الضغوط، فهي حيناً تصيغ مبادرات تسكين وتبريد الاحتقان.. ثم ما تلبث أن تميتها.. وترجي التعاطي معها إلى حين "فضة" أخرى تتشكل إرهاصاتها ونذرها الخطرة فوق سماء الوطن.. ثم تبعثها –أي المبادرات-
ثانية على هيئة اصطفاف غائم الملامح، عائم الأهداف، قائم على بقاء الوضع على ما هو عليه، وإن كان ملفوفاً بأحاديث مبعثرة لا تلملم جسد الوطن المتناثر، المتصادم، المحترب مع نفسه.. ولا تهيئ أرضية حقيقة لحوار
حقيقي.. وتعاط مسؤول مع استحقاقات كارثية ستطال رأس الجميع.. إن لم تنفض الأنظمة الأحادية عن جسمها السياسي غبار فلسفات الحكم المنتمية إلى الماضي الكئيب المظلم.. وتفتح بجدية غير مواربة أو متحاذقة
.. على مختلف ألوان الطيف السياسي.. على الحكام الانفتاح على "الموزاييل" الذي يمنح الأوطان منعة ويحصنها في مواجهة القهر الداخلي ونير الاحتلال الأجنبي.
أخيراً لسنا بحاجة إلى تدنيس عاصمة أخرى بأحذية الاحتلال –حتى نستفيق مرة ثانية على مبادرة اصطفاف أخرى تتوزع مضامينها ودواعيها بين "الفزاعة" و"الفقاعة".. أو ذر الرماد في العيون.. لسنا بحاجة إلى
فاجعة جديدة.. لنحصد بعدها وعوداً بتطبيع.. وعهداً بانفراج.
محمد الحيمدي
عقلية الاستبداد 2166