كل النظم الجمهورية في الوطن العربي مصيرها أن تتساقط الواحدة تلو الأخرى طال الوقت أم قصر وعلى هذا النمط العربي ألحصري المخزي والمخجل الذي شاهدناه على قنوات التلفزة وهي تنقل أحداث هروب "بن علي"
من غضب الشعب التونسي، الذي هب عن بكرة أبيه ليدمر أركان نظام حكم استمد شرعيته وطوال فترة وجوده في السلطة كغيره من أنظمة الحكم العربي عن طريق إجراءات مجحفة فصلها على مقاسه في شكل مواد دستورية
منحته البقاء القسري على كاهل الشعب بعد أن أحكم قبضته الحديدية على كل مفاصل السلطة.. وفي ظل مؤسسات ديكورية تتولى تزيين صورة النظام على المستوى الخارجي ومهام شهود الزور على المستوى الداخلي.
لكن كرامة الشعب التونسي وانتفاضته الباسلة وتضحياته الشجاعة وضعت أخيرا حدا لكل ذلك وأثبتت على الواقع أن الشعوب لا يمكن أن تقبل مطلقا أن تتعايش على طول الخط والى ما لا نهاية مع حياة الذل والهوان والاستبداد
وقمع الحريات ونهب الأموال والثروات وانتهاك الحقوق حينما تمثلوا في هبتهم تلك ,قول مواطنهم التونسي الشاعر "أبو القاسم" الشابي إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر .
كل الرؤساء العرب يدركون جيداً إنهم أسسوا لنظم حكمهم نهجاً لا يعترف بنهاية أخرى بديلة عما حدث في تونس للرئيس "بن علي" إذا لم يرحمهم القدر ويتوفاهم ,وهي في حقيقة الأمر معادلة حسابية باهظة الثمن قد لا
يخطر على بال الحاكم من أنه سيدفع نصيبه حتى وان كان بأثر رجعي, ولكن دون شك إن التكاليف الأكثر تتحملها الشعوب المغلوبة على أمرها, فليس هناك أفظع من إجبارها على التخلي عن آدميتها بكل آمالها وتطلعاتها
وطموحاتها ومسؤولياتها تجاه مستقبلها ومستقبل أبنائها, وينهار كل شيء أمام عينيها دون أن يكون لها الحق في الاعتراض أو أبداء الرأي وإنما عليها أيضاً أن تصفق وتبارك لإجراءات هي أول ضحاياها حتى لا تتعرض للأذى
والملاحقة وعذابات السجون اللإنسانية والتصفيات المتعددة الأشكال, بمعنى أنه محكوم عليها أن تتحول الشعوب تدريجياً إلى قطيع من الماشية والأغنام تنقاد بعصى السلطة وأعوانها, كل ذلك سيترتب عليه شاء الحكام، أم
أبوا بروز حالات من المعاناة ستظل في تراكم مستمر إلى أن يقيض الله لها ساعة القدر كي تنفجر وتنطلق نحو استعادة آدميتها التي سلبت منها كما حدث لهبة تونس العظيمة.
ساعات من الغضب الشعبي التونسي استمرت فقط لمدة "23" يوما من التضحيات الجبارة أجبرت الرئيس زين العابدين بن علي على الرحيل بعد "23" عاما قضاها في سدة الحكم في تونس وأنهت بل وعرت كل
مظاهر السنوات العجاف المزيفة وأعادت إلى التونسيين من جديد أملهم في اختيار طريق آخر تعيد لهم الثقة في أنفسهم وتلبي لهم طموحاتهم واحتياجاتهم التي تعرضت لهزات عنيفة على يدي سلطة النظام المخلوع أفقدتهم القدرة
على التكيف مع واقع معيشي لم تتوقف أحواله عن التدهور اليومي, لحظات تاريخية ولأول مرة جعلت الشعب العربي كله من مائه إلى مائه تونسي الجنسية يتابع بإحساس وطني بالغ الذروة داعيا الله عز وجل أن يمد الشعب
التونسي بالصمود حتى يكلل انتفاضته بالنجاح المأمول فكان لهم ما أرادوا.. بصبرهم وقوة عزيمتهم وإصرارهم على الفداء والتضحية, لعل هبة تونس الشعبية العظيمة أن تضع نهاية لظاهرة أنظمة الحكم العربية الحصرية
العقيمة، التي ابتلت بها الشعوب العربية وعانت منها الكثير ووضعت حدا لعوامل النماء والرقي والازدهار وأعاقت تطور سير حياتهم وساهمت في تخلفه عن مواكبة تطورات الحياة العصرية التي تشهدها دول العالم التي اختارت
طريق الديمقراطية والتداول السلمي للسلطة نهجا حقيقياً ودستوراً أبعد من أن يكون عرضة لنزوات الحكام وعبثهم .
amodisalah@yahoo.com
صلاح محمد العمودي
بن علي.. أولاً 2412