ما هو التعريف والمفهوم الحقيقي للوطن.. هناك خلط كبير في مفهوم عامة الناس للوطن.. في نظر الغالبية العظمى يعرف الوطن بأن الموطن أو المكان الجغرافي للآباء والأجداد وبأنه حق وموروث شعبي لمجموع من الناس يعرف بأنه شعب.. والوطن في مفهوم هذه الشريحة مساحة معينة من الكرة الأرضية بما تحويه من شجر وحجر وثروات وهي حكر على أهلها وليس من حق أي جماعة أو أفراد منازعتهم أو مشاركتهم هذا الحق المكتسب بعرق الآباء والأجداد الذين ضحوا من أجله بكل غال ورخيص.. وعليه فهم يتوارثونها جيلاً بعد جيل وإنها هبة ربانية غير مسترجعة ولا يحق لأحد الاعتراض عليها وعلى استخفافهم بها .
وعليه فإن أصحاب هذه القناعات يرون أن الولاء والحب والانتماء لهذا الوطن إنما هو ولاء للآباء والأجداد وتقدير لتضحياتهم وشكر للخالق الذي أنعم وأختصهم بهذا الفضل.
لذلك فإن حماية هذه الرقعة من الأرض والولاء لترابها وحمايتها من أي معتد مغتصب أو منازع خارجي إنما هو البر الطاعة بعينه للآباء والأجداد وواجب ديني لا يكتمل الدين بدونه.. وإن أي تفريط في ذلك إنما هو الخيانة العظمى والكفر بعينه مهما كان هذا الوطن قاسياً أو صعباً أو مهما قاس أهله وسكانه من ظلم وفساد وعجز عن استغلال ثرواته وتحقيق الرخاء لأهله.
من أجل ذلك فإن الحروب بين الأمم المختلفة نظراً لتميز بعض الأماكن عن غيرها بما تحويه من ثروات طبيعية أو مواقع استراتجيه وأثناء هذا الكر والفر والغزو والاستعمار وما راح ضحيتها من ملايين القتلى والمشردين والمستجدين خرجت العشيرة بأعراف وقوانين واستحدثت نقاطاً جغرافية لتسمية المناطق ورسم حدودها الجغرافية ونفوذها وأحقية أهلها في كناها واستغلال ثرواتها وانتهاج الطريق التي تختارها في حكمها ونظامها ومعتقدها.. وتجريم أي فئة تحاول تحظى هذه الحدود أو التدخل في شئون غيرها.
في الجانب الآخر هناك جماعة لا تؤمن بهذا الفهم والتعريف للوطن والمواطنة وترى أن الأرض حق مشترك للجميع وأنها هبة ربانية للبشر كافة وليست حصراً على فئة معلنة من الناس ولا يجوز توريثها وأن الأحق بها هو من يملك أماكنها ويحسن استغلالها واستخراج ثرواتها بما يعود على الإنسانية بالخير سواء في ذلك الأفراد أو الجماعات.
فمن حق أي فرد أن يحصل على حق المواطنة والانتساب إلى بلد يعيش فيها ويسهم في بنائها ازدهارها كما أنه يتمتع بجميع الحقوق التي تضمن حقه في هذا الخير والاشتراك في إدارته ورسم خططه بغض النظر عن أصوله العرفية وأن ولاءه للنظام القائم الذي هو عضو فيه وحماية وحب هذا النظام واجب مقدس طالما أنه يوفر له الرخاء والعيش الكريم.
كما أنهم يرون أن من حق أي جماعة أو أمة أن تنقل أو تمزج أمة أخرى من موقع جغرافي إذا لم تحسن استغلال هذا الموقع استخراج ثرواته لصالح الإنسانية أو مارست الجهل أو عجز أو سائل احتكارية لمنع الآخرين من ا لاستفادة منه.
وأصحاب هذا الفكر أو المفهوم روجوا لأفكارهم من خلال أكبر نظامين شهدتهما البشرية في العصر الحديث.. الأول تحت شعار وفكر الاشتراكية والآخر تحت شعار وفكر الرأسمالية وكلا النظامين قائم على أطماع الاقتصاد تخفى تحت شعارات أخرى سواء المساواة الاجتماعية القائمة على التساوي في كل شيء بالنسبة للنظرية الاشتراكية أو الحرية والعدالة الاجتماعية في النظرية الرأسمالية.
ولأن محرك ودافع النظريتين واحد تقاسم النظامين القائمين عليهما العالم وسخر كل ثرواته لصالح وطنهم الأم متناسين ما يصرحون به للخارج من عملهم على سعادة ورخاء البشرية ومساعدة الضعفاء في استخراج ثرواتهم وإعادتها إليهم.
ومارس صراعاً خفياً بينهما أدى إلى استنزاف ثروات الدول التابعة لهم وأنتهى الأمر بسقوط أحدهما إلا وهو النظام الاشتراكي ليكتشف العالم كم خدع وضحك هذا النظام على دول العالم التي خضعت له وأن ثرواتها كلها قد نهبت إلى موسكو.
ووجد النظام الآخر الرأسمالية فرصة سانحة والساحة خالية ليكشف عن أنيابه ويتحول من داعم ومساعد لشعوب ضعيفة إلى مصاص للدماء ووصي شرعي عليها أن تضع ثرواتها لرفاهية شعبه وبدأ التنكر لمبادئه وأحقيه المواطنة في أرضه.. فالمعايير اختلفت وليس من حق أي شخص المطالبة بها لمجرد عيشه وإسهامه في عز هذا الكيان.
هل يوجد هناك تعريف أو مفهوم آخر للوطن والمواطن غير ذلك القائم على أصول عرقية أو ذلك القائم على أطماع اقتصادية.
إن الباحث في الأدباء السماوية يجد أنها تطرقت لهذا الموضوع وعرفته تحت مفهوم جديد للكون والحياة.
إن الأديان السماوية تنص على وحدة الأصل البشري وتساويه في الأصل ووحدة المنشأ وحريته المطلقة الغير مقيدة إلا من حقوق الآخرين وإن تميزه يكمن في عقله وقدرة هذا العقل في الوصول إلى خفايا واعجازات هذا الكون ليصل إلى معرفة ربه وكبح غرائزه وأطماعه من أذية الآخرين وإقامة العدل بين بني الإنسان .. والوطن هو الأرض ساحة الاختبار والابتلاء فهي ميدان مؤقت ليس ملكاً ولا حصراً على أحد يقضي فيه الجميع زمناً معيناً هو فترة الاختبار المحدد لهم من قبل الخالق الموحد لهذا الكون ثم يغادرون ليأتي غيرهم.
والعبرة بما أبلوه في صحفهم لا بالمكان الذي اخبروا فيه وإن هذه الأرض ومسخرة بكل ما فيها وعليها لحرمة هذا الإنسان.
هذا المفهوم العظيم للوطن والمواطنة والذي تجلى واضحاً في آخر الرسالات السماوية ورسولها محمد صلى الله عليه وسلم الذي جاء إلى سكان الأرض كافة غير مختص بعرق معين ولا بلد معين فهو جاء ختاماً ليؤكد ما جاء به آدم أبو البشرية وأول انبيائهم ومحمد صلى الله عليه وسلم ابن لآدم يبشر نبيه وخاتم النبيين إلى كل أبناء آدم مذكراً إياهم بوحدة الأصل والمصير والتساوي في الخلق وفي بعثته كسر لكل الحدود الجغرافية وكسر لكل الحدود العرقية وتأكيد على وحدة الأصل وتساويهم في الحقوق وتأكيد صارخ وواضح لمبدأ الحرية التي لا تؤمن بحدود مادية ولا فكرية للجسد والروح وتصحيح معايير التمايز والتفاضل وتصحيح لرسالة البشر والغاية من خلقهم فالأرض والوطن في هذا المفهوم هي لكل من يعمرها بالعدل ويضمن حرية الإنسان فكرياً ومادياً ولا يقبل مبدأ الوصاية عليه.. فعلى أي نظام قائم يهيأ له الجو المناسب لينطلق في هذا الملكوت ويكتشف أسرار ويؤسس قدراته وثرواته التي أودعها الله في هذا الكون ليصل إلى خالقه وينعم بما أعطاه؟.
د. يحيى عبدالله راجح
الوطن والمواطنة 2306