"أخبار اليوم" زارت منزل الأسرة وتقصت الحقائق عن كثب وإليكم أحداثها:
لم نقف عند حدود المكان ، بل تخطيناه لنصعد إلى شقة بحي وديع حداد بالمنصورة، تسكنها عائلة مكونة من أم وولدين حبسوا أنفسهم ستة عشر عاماً لا يعرفون فيها ضوء الشمس ، وما أن بداء مرافقنا عادل الحريري الجار الجديد للعائلة يستأذن لنا بالدخول وبعد وقت طويل فتح لنا الباب، حينها أصابنا الهلع والرعب من وحشة المكان .. وكأننا في مغارة مهجورة .. تتدلى فوق رؤوسنا الخيوط التي نسجتها العنكبوت ، رائحة التعفن تفوح من أرجاء المكان .. الصراصير والحشرات السامة تتجول بحرية وكأنها ألفت سكان البيت أو هم ألفوها فما عادوا ينكرونها ، وهناك على الأرض تقبع امرأة نحيلة الجسم يخالط شعرها البياض ، رثة الثياب، ملامحها توحي بحزن عميق .. على خديها خطان أسودان .. وفجأة نسمع صوتاً يصرخ بنا بنبرة غضب من أنتم ؟ لماذا جئتم ؟.
ضعوا حقائبكم خارجاً أنا أكره الصحافة لأنها تريد أن تشهر بنا .. إنه بسام الابن الأكبر البالغ من العمر 37 عاماً ويقف بجانبه أخوه مالك الذي بدا أكثر من أخيه لطفاً مع أنه الأصغر، عندها هممنا بالخروج، لكن مرافقنا معين حاول تهدئة بسام وأعطى له الأمان بأننا جئنا لنساعدهم لا كما يتصور.
المأساة والصبر :
بدأت نبضات قلوبنا تخفق بسرعة وبدأ العرق يتصبب منا وما عدنا ندري كيف نبدأ معهم الحوار .. إلا أن الأم بدأت تحكي مأساتها فقالت : نحن من محافظة الضالع م / جحاف قرية الشيمة، انتقلنا إلى هنا عقب أحداث يناير وهذا البيت موثق باسمي وباسم أولادي وزوجي أحمد محسن ، حياتنا معه بائسة منذ أن كنا في الريف وهو المسئول عما نعانيه اليوم.
وعندما سألناها لماذا حبستي نفسك وأولادك ؟ قالت : بعد حرب 1994م كان زوجي لا يعيش معنا في البيت وبدأ يأتي إلينا بين الحين والآخر ويخبرنا بأن صاحب المنزل يريد بيته، لكننا لم نصدقه لأن الدولة قد عوضت صاحب المنزل وبدأ يخوف أبنائه وينصحهم بعدم الخروج، لأنهم سيتعرضون للقتل ، والحقيقة هي أنه طامع في بيع البيت وبدأت أنا أخاف على أولادي فحبستهم واستمر هو وأخوتي الذين خاب أملي فيهم يحاولون أذيتي بكل الوسائل حتى أنهم اتهمونا بالجنون وقد جرعني السحر بالقوة وفي صبيحة يوم أقتحم زوجي علينا البيت هو ومن معه ليثبتوا أننا مجانين، من بعدها أصيب ابني بسام بحالة نفسية، فأصبح يرى في كل إنسان صورة وحش كاسر قاسي القلب ولا حول له ولا قوة إلا بالله .
روح محطمة :
أما بسام الذي بدا نحيلاً ضامر الوجه تكاد أضلاعه تعد وتحصى ، أمتنع عن التصوير ولم يسمح لنا بالدخول إلى حجرته التي تبدو بحالة مزرية ويقول .. بأنه لن يتخل عن منزله الذي أصبح يعني له الكثير وأنه لا يريد سوى قيمة الدواء لألام العمود الفقري ويطمع في معاش يستطيع أن يؤمن به قوت عيشه ، لكنه محاط بالخيبة والقنوط، فقد تكدرت حياته وأظلمت الدنيا في وجه، فبدا ساخطاً على الناس لكفرانهم بالمبادئ النبيلة والقيم والإنسانية بمن فيهم الأهل الذين تخلوا عنهم، فهو يفضل عدم الخروج، لأنه يشعر أن أعين الناس تزدريه وتسخر منه ثم أنه لا يشعر بالأمان خارج المنزل .
يطلب الأمان :
بدا مختلف كلياً عن أخيه ، إنه مالك الأخ الأصغر لبسام عمره 23عاماً، إلا أنه بدا مهذب المنطق مجيد الإنصات تخرج العبارات منه رقيقة لكنها تحمل الكثير من معاني الألم .. فالهم يطويه والحزن ينشره كيف.. لا ؟ وهو محبوس بين جدران منزل خاو لا أثر فيه للمقومات الأساسية .. لا مياه لا أثاث لا نظافة ولا مطبخ ولا أمان ، يمر عليه تاريخ وتعتريه عقود من الزمن وهو في عزلة وحيداً يحاكي نفسه بعد أن هجره جفاة الطباع ، لكنه اليوم يريد أن يريح أعصابه من العبء المرهق ويتمنى أن يخرج ليعيش حياته كما سنها الخالق لعباده، فهو يطلب عملاً ومنزلاً جديداً ينسى فيها تلك الليالي الحالكة السواد بشرط أن يعطى له الأمان لا أن يشعر بالخوف الشديد .
حيرة الجيران :
بدا الجيران محتارين في أمر هذه العائلة وكلما حاولوا مساعدتهم وجدوا الأبواب مغلقة، حتى الطعام والشراب يأتون به إليهم فيجدونه مرمياً خارج المنزل لاعتقادهم أنه طعام مسموم ، وأكد لنا الجيران أن هذه الأسرة لا تخرج من البيت إطلاقاً وكأن أحداً ثبتهم على جدرانه ، وأنهم حاولوا أن يشعروهم بالأمان لكنهم عجزوا .. ويضيف الجيران أن هذه العائلة عندما تحتاج لطعام فأنها تشعل النار في شرفات المنزل ( البلكون) فحينها يفهم الجيران أنهم جوعى محتاجون للطعام .
لا نامت أعين القساة :
هكذا صنع الإنسان لنفسه ولغيره الهلاك ، فعل ذلك عندما أخلد إلى مطامع الأرض ، وهاهي عائلة بكاملها تتأوه وتبكي احتراقاً ويصبح عزاؤها الوحيد الجلوس بين الجدران ليلاً ونهاراً لتشكو لها مما تفعله بها قسوة الإنسان لكن الأهم أين هي منظمات حقوق الإنسان ؟ وأين أهل الدين والصلاح ؟ وأين من ينشدون السعادة للإنسان ؟ أم أنه قدُر لهذه الأسرة أن تطوي صحيفة أيامها بين جدران صماء لا تعرف سوى العزلة التي تأكل أفرادها فيدفعون أعمارهم ثمناً لها .. ولله الأمر من قبل ومن بعد.<