إعادة العلاقات مع واشنطن
كانت رغبة اليمن في إعادة العلاقة مع أمريكا والتعاون مع هذه الدولة الكبيرة الغنية لكي تساعد اليمن الفقير الذي خرج من حرب ثمان سنوات عجاف، وتكون هذه الدولة الكبيرة عوناً لليمن لتساعدها من أجل التغلب على المصاب التي واجهتها، والحروب التي عاشتها، واستمر الحوار مدة وبعد تشكيل حكومة الأستاذ القدير السياسي محسن العيني أصبح ملف إعادة العلاقات معه. بعد أن أبديت رغبة اليمن مع جورج شتاين القائم برعاية المصالح الإمريكية في اليمن، وكذلك مع ديفيد نيوتن ، وأبلغت الرئيس بما دار في اللقاءات معهما أولاً بأول، وبحرص الرئيس أن يكون لليمن علاقات مع جميع دول العالم.
لقد كانت السفارة الإيطالية ترعى العلاقات الخارجية لكل الدول الأوروبية التي لم تعترف بعد بالنظام الجمهوري. وكنا نؤكد بأن اليمن ترغب أن تعيد العلاقة معهم، وترى مصلحتها أن تنظر بعينين في علاقاتها الدولية، واليمن بلد متخلف ورث تركة ثقيلة من الحكم الإمامي، ومن الحروب التي فرضت عليه بعد الثورة. ومهمة الدولة اليوم البناء وإزالة آثار الحرب والخراب والدمار، ونحن بحاجة إلى المساعدة من كل دول العالم لكي نبني اليمن اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً، لأنه تخلف لعدة قرون، ونريد من أمريكا أن تساعدنا للتغلب على مصاعبنا التي نعاني منها.
لقد تخلفنا عدة قرون نقولها ولا نخجل من هذا الواقع،ويجب أن نعترف بأننا تخلفنا كثيراً عن الدول العربية ودول العالم، وعلينا أن نستفيد من جميع دول العالم ،لمصلحة اليمن. ورؤيتي ما زالت ثابتة بأن اليمن يحتاج إلى البناء واللحاق بالعصر،وإزالة كل الآثار السلبية التي ورثها من الماضي،وان تكون علاقاتنا الإقليمية والدولية جيدة طبقاً لتوجيهات القاضي عبدالرحمن الإرياني. . الذي أوكل المهمة إلى حكومة الأستاذ محسن العيني،وكنا قد اتفقنا مع الأمريكان على المبادئ في إعادة العلاقة معهم.
ولذلك أردنا أن يكون الاتصال مباشراً مع الأمريكان من دون وسيط. وقد نجحت خطتنا معهم، وللأمانة التاريخية كان الدور الكبير للأستاذ محسن العيني الذي استطاع إقناعهم بضرورة وصول وزير خارجيتهم وليم روجرز إلى صنعاء للإعلان عن إعادة العلاقات، وبهذا الموقف تعزز موقف اليمن العربي والدولي، وأصبح لليمن علاقات دبلوماسية مع جميع دول العالم.
لقد كانت زيارة موجزة لليمن في حالة صعبة، فلا إنارة في المطار، لأن مطار صنعاء الدولي في طور الإنشاء بالمساعدة الألمانية الغربية،كان وصول الوزير الساعة السادسة مساءً، فاضطررنا إلى استخدام كشافات السيارات وهبط في المطار الجنوبي. وشاهد الحالة المأساوية التي نعيشها ومكث ليلة في صنعاء. وأعلن عن إعادة العلاقات على مأدبة العشاء التي أقيمت تكريماً له.
نصر سياسي
إن أهمية إقامة علاقة دبلوماسية مع دولة كبيرة والاعتراف بالجمهورية العربية اليمنية يعد نصراً سياسياً كبيراً لعلاقات اليمن الخارجية التي بدأت في مرحلة سابقة بإعادة العلاقة مع ألمانيا الغربية عام 1969م وتلك من المؤشرات التي تدل على أن اليمن أصبح دولة مستقلة ذات سيادة معترف بها من دول العالم، وليس علينا مؤثرات خارجية إقليمية أو عربية، نحن شببنا عن الطوق وأصبحنا دولة لها مكانتها، ومن نتائج العلاقات الدولية الحسنة كانت زيارتي الرسمية إلى المانية الغربية في 29/5/1972م أكدت المكانة التي تتمتع بها بلادنا وعلاقتها الجيدة مع دول العالم.
لقد ذهبت إلى ألمانيا في زيارة رسمية مع وفد عسكري، واستقبلنا استقبالاً رسمياً، وعزفت الموسيقى العسكرية الألمانية السلام الجمهوري في بون عاصمة ألمانيا الاتحادية لأول مرة، وكان لهذه الزيارة صدى كبير لدى المراقبين، حيث كان في استقبالي وزير الدفاع الألماني ورئيس هيئة الأركان بحضور عدد من السفراء العرب والأجانب ومسؤول من الحكومة الألمانية.
وفي فترة سابقة ذهبت عدة وفود سياسية مدنية إلى ألمانيا،ولم تستقبل بالحفاوة التي قوبلت بها، لأني ساهمت بدور إيجابي في إعادة العلاقات معها، وقد وجهت إلي الدعوة من الحكومة الألمانية تقديراً لتلك الجهود التي بذلتها في ذلك المجال.
والموقف الذي أذكره في بداية الزيارة حينما سألني الألمان: هل تريدون مساعدات عسكرية؟ أجبتهم: إن زيارتي هي تأكيد للرغبة في تعزيز الصداقة ومعرفة بعضنا بعضاً، والتعاون العسكري يحتاج إلى وقت. . وسألوني ماذا تريدون ؟ قلت: نريد مساعدات طبية وأدوية وباصات للكلية الحربية، ومساعدات فنية وتدريب الضباط في المعاهد العسكرية. ونجحنا بالموافقة على التدريب، وذهب للدراسة المرحوم علي يحي القاضي وكذلك بعثنا طيارين مدنيين ، واتفقنا على التعاون الفني والتقني لتأهيل الضباط، وخلال الزيارة شاهدت مناورة كتيبة دبابات في مناطق وعرة وأبديت إعجابي الكبير بقدراتهم العسكرية،ولم أطلب منهم أي مساعدات عسكرية،وكان اهتمامي آنذاك أن نقدم أنفسنا للغرب،ونبني جسور الثقة والصداقة معهم ، وكان يرافقني المقدم أحمد حسين الغشمي قائد كتيبة المدرعات الأولى.
لقد تمكنت من تعزيز الثقة مع الألمان، لأنهم تأكدوا أن اليمن دولة تريد أن تبني نفسها،وتتخلص من مخلفات الماضي، لذا كان اللقاء ذا أثر إيجابي على العلاقات اليمنية الألمانية، وحصلنا على دعم فني للقوات المسلحة، وكذلك على مساعدات طبية للجيش. إضافة إلى تأهيل عدد من الطيارين اليمنيين.
وقد أشار الألمان خلال الزيارة إلى أن لدى العسكريين اليمنيين رصانة وعقلاً ورغبة في إزالة رواسب الماضي، والبدء في مرحلة البناء والاهتمام بالصداقة معهم. . وما زلت أحتفظ بالبيان الذي صدر عن الزيارة.
وبعد أن نجحنا في البناء المؤسسي العسكري حدثت إثارة بأن النظام ضعيف،وسماحة الرئيس أنها دليل ضعف وعدم قدرة على الحزم وضبط المواقف.
لقد حاول بعض الأشخاص الإثارة والتشكيك في الصرفيات المالية، وهذا غير صحيح ، لأن الأموال غير موجودة وقتها كما يقولون "كم الديك وكم مرقه!" البلد ليس فيها بترول ولا ثروات معدنية، ولا أنهار. والزراعة معتمدة على مياه الأمطار، والمعونات الخارجية محدودة، وبعض الوزراء في الحكومات المتعاقبة كانوا محدودي الخبرة في الحصول على المساعدات الخارجية،وليس لديهم معلومات للاستفادة من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والصناديق العربية، كنا نحصل على مساعدات بالمصادفة من بعض الدول التي تعطف علينا. هذه هي الصورة البائسة لوضعنا والمؤسف أن ناساً يثيرون الشكوك والأوهام ضد الدولة الوليدة المنهكة من الحرب التي تحملناها عدة سنوات.
استغلال القرارات
لقد كان بعض الحاقدين يستغلون المواقف بوصفهم للنظام بالضعف نظراً لسماحة النظام ورجاحة عقل الرئيس- استغل بعض الناس قرارات أعدتها القوات المسلحة للحكومة ، كما استغلوا عواطف المجتمع وأبناء القوات المسلحة الذين يتطلعون إلى مستقبل أفضل، بعد أن تحقق الأمن والسلام، وأهم ما فيها انتقاد الفوضى الإدارية والمالية، وهي في مجملها تخدم غايات سياسية الغرض، منها تشويه صورة النظام.
وحضر هذا اللقاء الذي نتجت عنه القرارات الإخوة إبراهيم الحمدي وعبدالله الأصنج وعبدالله حمران ومحمد سالم باسندوه وأحمد دهمش ومحمد الإرياني، وحسين المسوري ومطهر الإرياني وعدد من الإخوان عسكريين ومدنيين، وأعدوا قرارات القوات المسلحة والأمن.
استغل جماعة براءة بعض العسكريين، وكنت أحدهم، وكان من الإخوة من لهم أهداف أخرى ، وفي مقدمتهم إبراهيم الحمدي وعبدالله حمران وأحمد دهمش، ومن ورائهم سنان أبو لحوم وبعض المشائخ، لقد شاركت في إصدار قرارات القوات المسلحة،وهي في الظاهر إيجابية لا خلاف عليها لكنها تمهّد ل13 حزيران/ يونيو، وخطوة لزعزعة النظام وبلبلته،والتشكيك فيه وبيان عجزه عن معالجة القضايا الاقتصادية والإصلاح الإداري، وهم يعلمون أن ميزانية القوات المسلحة واعتماداتها لا تزيد عن أربعة ملايين ريال، ماذا نعمل بها؟ وأين سوء الإدارة في هذا الجانب؟. . وأقصد بذلك الميزانية الشهرية أربعة ملايين ريال،وهي ميزانية القوات المسلحة بالاتفاق مع حكومة الأخ المهندس عبدالله الكرشمي رئيس الحكومة عام 1969م.
كلها تتعلق بالمرتبات والإعاشة والتموين واعتمادات المناطق، والنفقات العامة ما عدا الوقود. . أربعة ملايين ريال ميزانية القوات المسلحة ماذا سنوفر منها؟ وماذا نصحح منها؟ والقوات العسكرية حينها يبلغ عددها تسعة وثلاثين ألف جندي وصف وضابط.
وقد أعدت ميزانية الدولة بعد مرحلة السلام عام 1970م، وكل الحكومات كانت تعد ميزانيتها وتحاول أن تتقشف وتعتمد على نفسها وعلى مواردها المحلية لقناعة القيادة السياسية والحكومة بأن اليمن لا يمكن أن تتحقق لها السيادة والاستقلال الوطني، ما لم تعتمد في ميزانيتها ومرتبات الدولة على الموارد الذاتية وتعتمد على نفسها. <