تجربة محدودة
لم تكن لدي تجربة سياسية بحكم سني وبحكم عملي العسكري، وكذلك زملائي، وبعد خروجنا من السجن في القاهرة تحدثت عن هذ ه الحقيقة المؤسفة مع المرحوم علي سيف الخولاني والأخ اللواء محمد الخاوي وغيرهم.
يتحدث كثير من الباحثين والمهتمين بثورة اليمن عن المقارنة بين ضباط الثورة في اليمن وضباط الثورة المصريين الذين استلموا الحكم بعد الثورة مباشرة، ولماذا لا ينفذ ضباط الثورة في اليمن ما عمل به إخوانهم من ثوار مصر، وللإجابة عن هذا التساؤل بواقعه، فقد كان وضع ضباط الثورة اليمنيين مختلفاً، لأنهم لم يكونوا راغبين في قيادة البلاد لمعرفتهم بقدراتهم وسنهم المبكر، وضباط الثورة المصرية توزعوا على رئاسة البلاد وعلى قيادة الدولة من أول يوم للثورة في القطاعين المدني والعسكري، وضباط الثورة اليمنية عاشوا في ظل مثاليات نادرة عازفين عن السلطة السياسية، وحينما أراجع الأحداث الماضية أشفق على نفسي وعلى زملائي، لأننا كنا في ذلك الوضع المثالي النادر.
ضباط الثورة اليمنية خرجوا إلى ميادين المعركة، استشهد العشرات منهم في سنوان وخولان وصعدة وصرواح وغيرها، ومنهم من شُوّه وجرح، ومنهم من صدم نفسياً في ميدان المعركة، ولم يعد إلى الوطن مثل الزميل المرحوم محمد حسن العمري وذلك من هول الحدث الذي شاهده في خولان، هؤلاء هم ضباط الثورة اليمنية لا مجال للمقارنة بيننا وبين الإخوان المصريين الذين واجهوا المؤامرات، من أول يوم للثورة توزعوا وانتشروا في مناطق الجمهورية دفاعاً عن ثورتهم وعاصمتهم لكي لا تتكرر مأساة 1948م، هؤلاء هم الضباط الأحرار في اليمن الذين أناروا الطريق لشعبنا، وصدقوا فيما عاهدوا الله عليه.
والإخوة ضباط الثورة المصرية ثاروا في شعب مسالم لم تطلق طلقة واحدة، وتولوا القيادات الهامة داخل مصر وخارجها، ومصر بثرواتها وبتاريخها وبمؤسساتها تختلف تماماً عن اليمن المتخلف المحكوم لأكثر من ألف عام بأنظمة فردية ومتخلفة، ولم ينشئ النظام الإمامي المباد أي مؤسسة أو مال أو دولة .. أولئك الضباط الأحرار تحركوا للدفاع عن صنعاء على ظهور الدبابات والمدرعات والمدفعية إلى كل منطقة، وهم في الجبهات واستشهد منهم 15% في سبيل الثورة والجمهورية في أول سنة للثورة.
لم يكن لديهم طموح للاستيلاء على السلطة، لا قبل الثورة ولا بعدها، حينما امتنع بعض القادة عن قيادة الثورة تحملها بشجاعة المشير عبدالله السلال، فكان له الموقف العظيم، الذي أنقذ الثورة وقدر شجاعته الشعب اليمني وضباط الثورة الأحرار الذين كان يمكن أن يكون أحدهم قائداً للثورة، لكن إيمان الضباط الشباب بأنهم غير مؤهلين لقيادة البلاد لصغر سنهم وقلة خبرتهم، هو الذي حقق الانتصار للثورة والجمهورية.
معرفة القدرات
كان الضباط الأحرار يؤمنون بالقول المأثور :" رحم الله امرأ عرف قدر نفسه" كنا ضباطاً تخرجنا من سنتين في الكليات العسكرية غير معروفين لدى قطاعات الشعب اليمني لا سياسياً ولا قبلياً، والجيش يتكون من الوحدات التي ذكرتها آنفاً، وهي وحدات معظمها من القبيلة، وكذلك فوج البدر وكل أبناء اليمن من القبائل، جاؤوا من الريف إلى المدينة.
ضباط الثورة الأحرار بكل صدق وتجرد لم يطمحوا إلى الاستيلاء على السلطة، كان همهم أن تتحقق الثورة ودورهم قيادي في تحقيقها، ويتحملون مسؤولية نجاحها.
لقد سلم ضباط الثورة والسلطة إلى آبائهم الضباط الكبار لغاية نبيلة وعظيمة، وهدفنا هو القضاء على العهد الإمامي، وتسليم السلطة لكل أبناء الشعب وللقيادة القادرة على حكم البلاد.. وللمؤهلين في السياسة والإدارة والحكم.
وتمكنت حنكة المشير عبدالله السلال في ممارسة العمل السياسي والعسكري وباحترام الناس له أن تنفذ أوامره بفتح قصر السلاح في الوقت المناسب، وبالمكانة التي يتمتع بها عند الجيش اليمني.
والذي أعرفه وأنا متأكد منه أن تنظيم الضباط الأحرار استكمل مهمته، وأكملها بتفجير الثوار وتسليمها للآباء من القياديين الكبار، عسكريين ومدنيين.
وكان واجبه الوطني والتنظيمي هو أن يثبت النظام الجمهوري ويعمل على الدفاع عنه وترسيخه في ربوع اليمن، هذا أكبر عمل تنظيمي وسياسي، فالدول تذهب والحكومات تذهب، لكن بقاء ثورة وجمهورية هو الوسام على صدر تنظيم الضباط الأحرار، لقد كان أكبر عمل هو تثبيت النظام الجمهوري، كي تبقى الثورة اليمنية رافعة أعلامها على كل ربوع الوطن.
نصح القيادة المصرية
كانت علاقات الإخاء والعمل، مع الضباط الأحرار والقيادات المصرية علاقة مصيرية وودية، وكانوا ينصحوننا بالتعاون والتعامل معهم وألا ننجر مع بعض الإخوان من السياسيين والمشائخ، وكانوا أقرب إلى نفوسنا، وكنا أقرب إلى نفوسهم وللعمل المشترك، والفهم المشترك في العمل العسكري والطموحات المشتركة لبناء اليمن.
كانت علاقتنا متينة ومبنية على الثقة المتبادلة، وللحقيقة فإن الضباط والقادة المصريين والسياسيين كانوا يفهموننا ونفهمهم بحكم اختلاطنا بهم عملياً في الميدان، وفي القيادة، وكانت النظرة البعيدة، والهدف المشترك، الحفاظ على النظام الجمهوري والثورة اليمنية والانتقال باليمن إلى العصر الحديث، وكانوا يرون أن بعض السياسيين وبعض المشائخ غير صالحين وأن أفكارهم متخلفة ولا يريدون إنهاء الحرب أو قيام دولة تبني المؤسسات وتنهي سلطة المشائخ الذين فهموا أن مساعدة مصر تدخل واحتلال.
أما الضباط الأحرار والقوى الوطنية والسياسية فلم يشعر أحد منهم بأن الجيش المصري هو المحتل، لأن المحتل هو الذي يغزوك، لقد كان الفضل الكبير حينما وافقت مصر والرئيس عبدالناصر على الوقوف مع اليمن وكان أكبر انتصار لنا وللثورة حينما خرج الجيش المصري إلى بلادنا، ولولا هذه القوة لفشلت الثورة، إن مصر هي الدولة العظيمة التي دخلت اليمن لكي تنصر الشعب اليمني بأسلحتها وجيشها وسياستها ومالها، وليس هناك احتلال. هذا ما أريد أن أثبته.. الشيء الثاني ما ترتب على ذلك من تطورات بحكم الصراعات السياسية الدولية والعربية والمحلية والخلافات التي ذكرتها عكست نفسها، وأربكنا المصريين بسببها بل أربكناهم بأفكارنا وخلافاتنا وصراعاتنا قبل الثورة وبعدها، خلافاتنا في حجة عام 1948م صراع الاتحاد اليمني في القاهرة، بين بعض العناصر التي كانت تسمى بعثية ولها علاقات خارجية بحزب البعث العربي، انعكاساتها أربكنا بها هؤلاء القوم الذين جاؤوا يساعدوننا وتوزع اليمنيون بين ناصح وصادق في قوله، وآخر له أهواؤه ومطامعه وطموحه، ولم يتمكنوا من معرفة المصيب من المخطئ.
لقد عرفت معظم مناطق اليمن في أول شهور الثورة بلداً متخلفاً فقيرا ً، عرفت المناطق الشرقية والمنطقة الشمالية والشمالية الغربية، ربما لو ذهبنا إلى تعز لوجدنا فيها نوعاً من المدنية، وكذلك الحديدة، هذه المناطق كانت هادئة، كذلك إب أيضاً كانت منطقة هادئة داعمة للثورة، قدم أبناؤها كل الدعم للثورة وهي محافظة مستقلة، أما المشرق والشمال الغربي فمستوى الوعي فيه متدنّ جداً، لم يكونوا مؤهلين لاستيعاب الثورة ونصرتها، وفهمهم السياسي والاجتماعي والثقافي متخلف، لقد كانت أوضاع اليمن عام 1962م إلى 1963م، محزنة لا يتخيلها الإنسان ، ولا يتصورها العقل، ولا يستطيع أن يصورها مهما كتب ومهما قال.
ومع هذا الواقع المرير والصورة المتخلفة والمحزنة فقد زارت اليمن في أيلول/ سبتمبر 1963م شخصيتان كبيرتان من رجال الثورة المصرية هما المشير عبدالحكيم عامر والسيد أنور السادات رئيس مجلس الأمة، ومعهما عدد من الوزراء والقادة الكبار للمشاركة في رفع معنوية القوات المصرية للدافع عن الثورة اليمنية، وزار المشير عامر منطقة جحانة، والتقى بالشيخ ناجي الغادر في محاولة لإقناعه بالثورة والجمهورية ، وكذلك زار الرئيس جمال عبدالناصر اليمن في نيسان/ أبريل عام 1964م في ذلك الخضم من الصراع. والحرب الأهلية وعظمته التي اكتسحت العالم العربي لتمكن الأعداء من إطلاق رصاصة طائشة تنهي حياته داخل اليمن، هل هذا الموقف نسميه احتلالاً أم تضحية؟ وخلال زيارته لصنعاء رفعوه على رؤوسهم بسيارته.. هذه المواقف يجب أن نوثقها للتاريخ وعلى الدولة أن تقرر لمصر فصلاً خاصاً في التربية الوطنية في مدارسنا وجامعتنا، وذلك لكي يعرف أبناؤنا تلك التضحيات الجسيمة التي قدمتها مصر العربية لليمن ويكون ذلك وساماً خاصاً للرئيس جمال عبدالناصر.