فيوليت داغر
إسرائيل كما هي لا مستقبل لها، بالرغم من كل (والأغلب بسبب) ما اقترفته من آثام بحق الشعب الفلسطيني، فمنذ 60 سنة وهي تمعن في هذه الأرض تقطيعاً وضماً واستيطاناً، وبإنسانها تنكيلاً وقتلاً وتشتيتاً.
جبت أرجاءها لأقف على عملية تقطيع أوصالها بجدار الفصل العنصري وبمئات الحواجز الثابتة والنقالة، لشل حركة الفلسطينيين واغتيال قدرتهم على العيش والعمل، وعلى تسليط سيف الاجتياحات فوق رؤوسهم ليلاً نهاراً وحرمانهم الشعور بالأمن والأمان في بلدهم.
رأيت كيف يجري تهويد القدس على قدم وساق لتصبح عاصمة لإسرائيل وليس للدولة الفلسطينية الموعودة، وكيف تنبت المستوطنات كالفطر في كل مكان، يسكنها شذاذ آفاق أتوا من كل حدب وصوب ليستولوا على هذه الأرض ويمنحوا كل الحقوق والامتيازات، لمجرد أنهم يهود أحياناً ادعوا ذلك، على حساب حقوق أهل البلد الأصليين الذين يمنعون من حق العودة لديارهم، بمن فيهم من هجروا من قراهم وبقوا داخل فلسطين.
هؤلاء يسامون صنوف العذاب والمهانة ويمنعون من التواصل فيما بينهم إن لم يحصلوا على ترخيص أو إذن يبرر انتقالهم من مكان لآخر، بحيث يحق للأجنبي السائح ما لا يحق لهم.
لكن هذا الزائر، عندما يكون من أصول عربية أو يوجد على جوازه ما يشير لزيارته لبلدان عربية، لا بل مجرد الشك في رغبته في الاطلاع على الوضع أو التضامن مع الفلسطينيين، يفرض عليه غالب الأحيان أن يخضع لتحقيق مطول ويوقف ساعات في المطار منتظراً الحصول على إذن بالدخول، إن لم يرد على أعقابه من حيث أتى، كما حصل مؤخراً مثلاً مع المقرر الخاص عن فلسطين من المفوضية السامية لحقوق الإنسان وغيره الكثير.
كل شيء في فلسطين التاريخية التي احتلت في 48 أو 67 يشي بأن الفلسطيني غير مرغوب فيه في أي مكان على هذه الأرض المقدسة، سواء كان تابعاً لسلطات الدولة العبرية مباشرة أو واقعاً مبدئياً تحت إدارة السلطة الفلسطينية أو محاصراً ضمن جدران سجن كبير وشبه مقطوع عن العالم يسمى قطاع غزة.
هو بكل الأحوال موضوع خضوع لسلطة احتلال، ما زالت تعتبر في الأدبيات الغربية السائدة دولة ديمقراطية، رغم علم هذا الغرب بالمخططات المعدة التي تنتظر وضعها تباعاً موضع التنفيذ، لتفريغ الأرض من سكانها الأصليين بكل الوسائل غير المشروعة خاصة، والتي تفرض بالقوة والأكاذيب وبالقتل والتهجير. فالفلسطيني الجيد هو الفلسطيني الميت، كما قال أحد مجرمي الحرب الإسرائيليين.
المخططات الموضوعة لتغيير خارطة الشرق الأوسط ووضع اليد على ثرواته استدعت، كما في الجولات والصولات السابقة في العراق ولبنان وغيرها، تحضير الأجواء بتزوير الحقائق واستخدام الإعلام وتلفيق الأكاذيب والدعاية المغرضة، لشيطنة العدو كي يسهل الانقضاض عليه بأقل الخسائر الأخلاقية الممكنة.
أتت الحملات التي أفرزت ما يسمى بالإسلاموفوبيا في الغرب لتتيح تحويل المقاوم (الإسلامي بالتحديد) إلى إرهابي ومتطرف يحظر التعامل معه.
وتمكنت ما سميت الحرب على الإرهاب من ضرب جمعيات إنسانية وخيرية (وحتى شخصيات مستقلة جريمتها الدفاع عن القضايا العادلة) وتجميد أرصدتها وتوقيف عملها.
لقد سهّل تجريد الضحية من صفات الإنسانية إحكام الخناق عليها، لا بل تحميلها مسؤولية ما يرتكب من آثام بحقها. وهكذا على مدار سنوات، انخرط ما يسمى الديمقراطيات الغربية والمؤسسات الدولية والهيئات غير الحكومية في العملية.
ضمن هذا السياق، كانت ترهات ما قيل عن مسؤولية حماس بإيقافها ما سمي بالتهدئة، في التسبب لقطاع غزة في هذه المحرقة التي أمطرته وما زالت منذ أكثر من أسبوعين ناراً، بحراً وجواً وبراً، ليلاً ونهاراً، من أسلحة منها ما هو ممنوع دولياً، محدثة موتاً ودماراً في كل مكان.
فقد خرق الجيش الإسرائيلي مرات عديدة هذه التهدئة عندما كان يحضّر منذ وقت طويل لهذه الجولة، بعد حصار مجرم ضرب على سكان غزة لأشهر طوال.
لكن ما يحصل اليوم في هذه المدينة الصامدة من مجازر لا توصف قابلته ردة فعل قوية من المجتمعات المدنية، خاصة أن حركات مقاومات مدنية وعولمة بديلة كانت قد انطلقت وراكمت إنجازات في التضامن العابر للحدود والتواصل بين الثقافات والتعاون بين الشعوب.
فدعم المقاومات في استرداد الحقوق والدفاع عن الحق في الحياة ينطلق من كون المقاومة حقا وواجبا ضمنتها الأعراف الدولية، ومنذ أن نص إعلان الاستقلال الأميركي (4/7/1776) صراحة على هذا الحق، اعتباراً من أن السلطة العادلة هي تلك التي تنشأ من اتفاق المحكومين. جاء بعدها "إعلان حقوق الإنسان والمواطن" (1789م) الفرنسي، ليقر أربعة حقوق طبيعية للإنسان لا يجوز المس بها: حق الملكية، حق الحرية، الحق في الأمن، الحق في مقاومة الظلم والاستبداد.
لكن أوروبا المستفيدة من الاستعمار المباشر ستكون آخر المتبنين لمفهوم مقاومة الاستعمار وآخر القابلين لفكرة حق تقرير المصير. مع ذلك حركات التحرر الوطني التي بدأت تنمو في كل مكان جعلت من غير الممكن الدفاع طويلاً عن موضوع الشعوب القاصرة، وبات حق حماية الشعب الفلسطيني مسؤولية دولية.
وإذ أتى إقرار الإعلان العالمي لحقوق الإنسان للمقاومة، كي "لا يلجأ المرء آخر الأمر للتمرد"، فإلغاء هذا الحق من قاموس حقوق الإنسان، يعني ليس فقط انتصار الظلم والاستعباد، بل تأبيد التطرف والإرهاب.
وقد يكون العصيان المدني أو أي تحركات من نوع الانقلابات العسكرية أو على الأقل انتفاضة ثالثة في فلسطين هو ما يمكن أن نشهده في مستقبل قريب، كتعبيرات لهذا الاحتقان والغليان الشعبي العربي الذي فاق التوقعات، بعد أن كان الانقسام الفلسطيني قد صرف الكثيرين عن القضية.
الكل مطالب إذن بتصويب مسار هذا التحرك واستثماره إيجابياً لمواجهة قانون القوة وفرض قوة القانون، عبر أشكال لا تخشى الاختراق والتطويع والتمييع. ولقلب قواعد اللعبة وتغيير المعادلات الخاطئة والكيل بمكيالين التي ما زلنا ندور في فلكها.
وضع القانون ليس فقط لحماية البشر من ظلم من يملكون الثروة والسلطة، وإنما أيضاً لحماية هؤلاء من انحرافاتهم الذهنية وتشويهاتهم النفسية. خاصة أن ما يجري في غزة يرقى لمستوى جرائم حرب حسب شرعة الأمم المتحدة.
وضع هذا القطاع الذي يقع تحت الاحتلال الإسرائيلي رسمياً، يلزم الدولة المحتلة باحترام معاهدة جنيف الرابعة في حماية المدنيين. كذلك قيامها بأعمال عسكرية، ينقض المادة 402 من شرعة الأمم المتحدة التي تحظر اللجوء للقوة في العلاقات الدولية، والمادة 201 التي تؤكد حق الشعوب في تقرير مصيرها. أما الحصار المضروب على غزة منذ عدة شهور، فهو أيضاً ينتهك أساسيات القانون الدولي والقانون الإنساني.
إذا كانت الدولة العبرية تضرب بالقوانين والشرائع والقيم عرض الحائط، فلأنها تتمتع بحماية تضعها فوق القانون الدولي وفوق المحاسبة. بل لنقل أيضاً بفعل ضعف آليات القضاء على الإفلات من العقاب.
لذا يجب توسيع أشكال التضامن والتشبيك بين أحرار وديمقراطيي العالم، للضغط على الذين يمثلونهم لتغيير مواقفهم التي تضر بشعوبهم، ولتصويب آليات المؤسسات الدولية ذات الشأن. ومن أجل مقاضاة المجرمين بحق الإنسانية أمام محاكم دولية أو محلية جديرة بالتسمية.
فقرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة قد حددت منذ النصف الأول للسبعينيات تعريفات أساسية في جريمة العدوان والحرب، ووضعت أسس التعاون الدولي في ملاحقة ومحاكمة مجرمي الحرب والجريمة ضد الإنسانية.