المؤلف/ علي محمد الصلابي
9- مقتل ريتشارد قلب الأسد : بعد صلح الرملة أبحر ريتشارد من عكا عائداً إلى بلاده وغرقت سفينته في البحر واستطاع أن يصل إلى الشاطئ سالماً، ثم توغل في أرض النمسا متنكراً ، حتى اكتشف أمره في إحدى الحانات بالقرب من مدينة فيينا في 11 كانون الأول (ديسمبر) 1192م فاقتيد إلى ليوبولد دوق النمسا الذي اتهمه بقتل المركيز كونراد مونتفرات وأراد الدوق أن يبيعه فتقدم أعداؤه لشرائه إلا أنه ما لبث أن سلمه هنري السادس إمبراطور قلب الأسد في آذار (مارس) 1194م. وظل يقاتل خصومه من الأمراء حتى أصيب بسهم قاتل فقضى نحبه في 26 آذار عام(1199).
10- طلبات من ديوان العزيز : وبعد خراب عسقلان وصل من دمشق كتاب من النواب بها وفي طيه كتاب من بغداد من الديوان العزيز النبوي يتضمن فصولاً ثلاثة: الأول: الإنكار على الملك المظفر في مسيرة إلى بكتمر ، والثاني: الإنكار على مظفر الدين في مسك حسن ابن قفجاق والأمر بإعادته إلى الكرخاني. والثالث: فيه الأمر بإحضار القاضي الفاضل إليهم ليقال له أشياء: فأجاب السلطان عن الأول بأننا لم نأمره بذلك وعن الثاني بأن ابن قفجاق لا يخفى ما تصدى له من الفساد في الأرض، وعن الثالث بأنه كبير الأمراض وقوته تضعف عن الحركة إلى العراق. وكتب القاضي في الاعتذار بالحضور إلى الدّيوان تمثل في كتابه بهذين البيتين:
ما كنت أول سارِ غرّه قَمَرّ
ورائد خدعته خُضرةُ الدّمَن
مَثّل لنفسك شخصي إنني رجل
مِثلَ المُعيدِي فاسمع بربي ولا تَرَنى
11 - ما قاله الرشيد ابن النابلسي في قصد الفرنج للسلطان بالقدس
من جملة قصيده:
ويح الفرنجة بل امّهم أوما
فيهم لبيب على العِلات يعتبر
فكم نثرتهم ضرباً إذا انتظموا
وكم نظمتهم طعناً إذا انتثروا
كم قد سقيتهم دلاً فلا عجب
إن عربدوا سفهاً بالقوم قد سَكرُوا
إن يمّموك فلا بدع لجهلهم
تسعى إلى الأسد في غاباتها الحُمرُ
زاروا نموراً ولا تُغني وقاحتهم
إذا أسودك في أبطالهم زأروا
فحام عن حوطة البيت المقدس لا
خوف وحاشاك من خوف ولا ضرر
هو الشريف وقد ناداك معتصماً
فما على مجده من بعدها حذر
وسوف تستغفر الأيام هفوتها
وتحصد الفئة الأوغاد ما بذروا
12- وقال أوب الحسن ابن الساعاتي في مدح صلاح الدين:
مُنعت ظباءُ المُنحنى بأسوده
وأشد ما أشكوه فَتك ظبائه
فغلت بنا وهي الصّديق لحاظُها
كظبى صلاح الدين في أعدائه
سل عنه قلب الإنكتار فإن في
خفقاته ما شئت من أبنائه
لولاك أمَّ البيت غير مُدافع
ولسال سيل نداك في بطحائه
وبكت جفون القدس ثانية دماً
لترنم الناقوس في أفنائه
13. تحصين القدس وتفقد أحوالها بعد الصلح : قال العماد: عادالسلطان بعد السلم على القدس،وتعميق خنادقه، وتوثيق طرائقه، وزاد في وقف المدارس سوقاً بدكاكينها، وأرضاً ببساتينها وكذلك رتب أحوال الصوفية في رعايتها، والوقف الكافل بكفايتها ، وعيّن الكنيسة التي في شارع قمامة للبيمارستان ونقل إليه العقاقير والأدوية من جميع الأنواع والألوان وأدار سور القدس على قبة صهيون، وأضافها إلى المدينة، وأمر بإدارة الخنادق على الجميع، وصمّم العزم على الحج، فلم يوافقه القدر وتأسف على فواته بعد أن قدّم مقدّماته وأقام شهر رمضان وأفاض الإحسان، وفوض ولاية القدس وأعمالها إلى عزّ الدين جُرديك حين استعفى منها حسام الدين سياروخ، وولى مملوكه علم الدين قيصر مادون القدس، كعمل الخليل وغزّة والدّاروم وعسقلان.
- اعتراض القاضي الفاضل على صلاح الدين في رغبة الحج : ولما بلغ القاضي الفاضل من قِِبل السلطان أنه عازم على الحج كتب إليه مشيراً بتبطيله، إنّ الفرنج لم يخرجوا بعد من الشّام ولا سَلوا عن القدس، ولا وُثقَ بعهدهم في الصلح، فلا يؤمن مع بقاء الفرنج على حالهم وافتراق عسكرنا وسفر سُلطاننا سفراً مقدراً معلوماً مُدة الغيبة فيه أن يسروا ليلة فيصبحوا القدس على غفلة ، فيدخلوا إليه - والعياذ بالله- ويفرُطُ من يد الإسلام ويصير الحج كبيرة من الكبائر التي لا تُغفر، ومن العثرات التي لا تُقال ثم قال: وحجاج العراق وخراسان أليس هم مئتي ألف أو ثلاث مئة ألف أو أكثر، هل يؤمن أن يقال قد سار السلطان لطلب ثأر وسفك دم وتشويش موسم، فاقعدوا، فيكون تاريخ سوء، أعوذ بالله منه، ما هذه الشناعة ممتنعة الوقوع، ولا مستبعدة من العقول السخيفة. . . يا مولانا ، مظالم الخلق كشفُها أهم من كل ما يُتقرب به إلى الله، وما هي بواحدة ، في أعمال دمشق من المظالم من الفلاحين ما يستغرب معه وقوع القطر ، ومن تسلط المُقطعين من لا ينادي وليده وفي وادي بردى والزُبداني من الفتنة القائمة والسيف الذي يقطر دماً ما لا زاجر عنه، وللمسلمين ثغور تريد التحصين والذخيرة، ومن المهمات إقامة وجوه الدّخل وتقدير الخرج بحسبها، فمن المستحيل نفقة من غير حاصل، وفرع من غير أصل، وهذا أمر قد تقدم فيه حديث كثير، وغرضت للمولى شواغل دونه ومشت الأحوال مشياً على ظلع، فلما خَلَت النوب -أعاذ الله من عودها- كان خلو بيت المال أشدّ ما في الشدة، وليس المملوك مطالباً بذخيرة تُحصّل، إنما يطلب تشية من حيث تستقر. وهذه الرسالة تدل على عمق فهم القاضي الفاضل بمقاصد الشريعة كما تبين أهمية وجود العلماء الربانيين بجانب القادة السياسيين والعسكريين. وقد استجاب السلطان صلاح الدين لنصيحة القاضي الفاضل فمع منها وشكر نصحه وقبله، وعزم على ترك الحج عامه ذلك، وكتب به إلى سائل الممالك واستمر السلطان مقيماً بالقدس جميع شهر رمضان في صيام وصلاة وقرآن، وكلّما وفد أحد من رؤساء النصارى للزيارة أولاه غاية الإكرام والإحسان، تأليفاً لقلوبهم وتأكيداً لما حلفوه من الأيمان ورغبة أن يدخل في قلوبهم شيء من الإيمان، ولم يبق أحد من ملوكهم إلا جاء لزيارة القُمامة متنكراً ويحضر سماط السلطان فيمن يحضر من جمهورهم، بحيث لا يرى والسلطان يعلم ذلك جملة لا تفصيلاً، ولهذا يعاملهم بالإكرام، ويُريهم صفحاً جميلاً وبرّا جزيلاً وظلاً ظليلاً.
14- رجوعه إلى دمشق: ولما كان خامس شوال سنة (588ه) ركب في عساكره وجحافله فبرز من القدس الشريف قاصداً دمشق المحروسة، واستناب على القدس عز الدين جُرديك وعلى قضائها بهاء الدين يوسف بن رافع بن تميم الشافعي فاجتاز على وادي الجيب، وبات على بركة الدّاوية، ثم أصبح في نابلس فنظر في أحوالها وأمورها، ثم ترحّل عنها، فجعل يمر بالمعاقل والحصون والبًلدان للنظر في الأحوال والأموال وكشف المظالم والمحارم والمآثم وترتيب المكارم، وفي أثناء الطريق جاء إلى خدمته بوهيمند صاحب أنطاكية فأكرمه وأحين إليه وأطلق له أموالاً جزيلة وخلعاً جميلة وكان العماد الكاتب في صحُبته، فأخبر عن منازله منزلة منزلة ومرحلة مرحلة إلى أن قال : وعبر يوم الاثنين عين الجّرّ إلى مرج يبوُس، وقد زال البُوس وهناك توافد أعيان دمِشق وأمائلهُا وأفاضلها وفواضلها ونزلنا يوم الثلاثاء على العرّادة، جرى المتلقون بالطرق والتحف على العادة، وأصبحنا يوم الأربعاء يعني سادس عشر شوّال بكرة- إلى جنة دمشق داخلين بسلام آمنين، لولا أننا غير خالدين وكانت غيبة السلطان عنها طالت أربع سنين، فأخرجت دمشق أثقالها وأبرزت نساءها ورجالها وكان يوم الزينة وخرج كل من في المدينة وحشر الناس ضحى وأشعوا استبشاراً وفرحاً، واجتمع بأولاده الكبار والصغار ووفد عليه رسل الملوك من سائر الأقطار، وأقام بقية عامه في اقتناص الصيد وحضور دار العدل للفصل والعمل بالإحسان والفضل، ولما كان عيد الأضحى امتدحه بعض الشعراء بقصيدة يقول فيها:
وأبيها لولا تغزل عينيها
لما قلت في التغزل شِعرا
ولكانت مدائح الملك الناصر
أولى ما فيه أعمل فكرا
ملك طبّق الممالك عداً
مثل ما أوسع البريّة بِرا
فيحلُ الأعياد صوماًً وفطراً
ويلق الهناء برا وبحرا
يا مسر الطاعات لله أن
أضحى مليك على الهنات مصراً
نلت ما تبتغي من الدين والدنيا
فتيها على الملوك وفخرا
قد جمعت المجدين أصلاً وفرعاً
وملكت الدارين دنيا وأخرى
15- اتهام أمير الحج بمكاتبة صلاح الدين ضد الخليفة: في سنة (588ه) اتهم أمير الحج ببغداد وهو طاشتكين - وقد كان على إمرة الحجيج من مدة عشرين سنة، وكان في غاية حسن السيرة - بأنه يكاتب صلاح الدين بن أيوب بالقدوم إلى العراق ليأخذها فإنه ليس يرده أحد، وقد كان مكذوب عليه في ذلك ومع هذا حُبس وأُهين وصودر.
16- وفاة الشاعر أبو المرهف نصير بن منصور النميري: توفي في عام (588ه) أبو المرهف النميري، فقد سمع الحديث واشتغل بالأدب ، وكان قد أصابه جدري وهو ابن أربع عشرة سنة فنقص بصره، فكان لا يُبصر الأشياء البعيدة ويرى القريب منه، ولكنّه لا يحتاج إلى قائد، فارتحل إلى العراق لمداواة عينيه فآيسته الأطباء من ذلك، فاشتغل بحفظ القرآن ومصاحبة الصالحين والزهاد فأفلح وله ديوان شعر كبير حسن، وقد سئل مرة عن مذهبه واعتقاده فأنشأ يقول:
أحب عليا والبتول وولدها
ولا أجحدُ الشيخين فضل التقدم
وأبرأ ممّن نال عثمان بالأذى
كما أتبرّا من ولاء ابن مُلجم
ويعجبني أهل الحديث لصدقهم
فلستُ إلى قوم سواهم بمنتمي. <